أبواب

خرافاتنا التربوية

خليل قنديل

كنت وقتها أجلس على شاطئ البحر، وكانت إلى جانبي عائلة على الأرجح أنها عائلة إنجليزية، وكان الزوج والزوجة في حالة انهماك كاملة، مع طفلهما الذي لم يتجاوز عمره السنوات الثلاث، وهم يزنرون جسده بعجلة بلاستيكية منتفخة بالهواء، وكنت أتوقع أن ينهض الأب أو ألأم ويحمل أي واحد منهم الطفل، كي يبللون جسده بماء البحر قليلاً، لكن الأم التي نهضت ورمت الطفل في البحر مرة واحدة، وتركته وحيداً وعادت لجلستها الانبطاحية، وهي تضحك، جعلتني أصاب بما يمكن تسميته بالقهر التربوي الذي عاشه جيلي ومازالت الأجيال العربية تعيشه أيضاً.

القهر التربوي، أو الغيرة التربوية الحضارية، إن جاز التعبير، جعلتني أتذكر الرعب الذي كانت تضخه أمهاتنا فينا، والجدات أيضاً، وهم يستحضرون الشخصيات الخيالية المقترحة ودسها في أرواحنا الطرية الغضة، كي نكف عن شقاواتنا الطفولية ونسقط في بحيرة النوم المرعبة.

فما من واحد منّا إلا وتشربت شخصيته مصطلحات وتسميات خرافية، كانت تتسلل إلينا من خلال القصص والخراريف والحكايات، وأنا مازلت أذكر خيالي الطفولي الخصب كيف كان يشقى وهو يحاول أن يرسم شخصية

«أبو رجل مسلوخة» الذي كان يجري تخويفنا به، وكيف كنت أرى رجلاً مشوهاً، بساق قد انكشط عنها جلدها، وبان عظم الساق مزرقاً ومخدوشاً.

كما أني وجيلي مازلنا نذكر كيف ارتبطت شخصية «الغولّة» في الحكايا، مع العتمة، وكيف يمكن لـ«الغولّة» أن تأكل أولادها في لحظة جوع، وقد كان عليّ ابان ذلك، أن أقوم بتشويه ملامح أمي، وأتصورها قادمة إلى فراشنا أنا وأخوتي لتلتهمنا الواحد تلو الآخر.

ويضاف إلى هذه الشخصيات شخصيات أخرى كانت تقاد إلينا في أعمار مبكرة، مثل قول الأم حين تتعب من صدنا عن شقاوتنا الطفولية وهي تقول «أسكت وإلا ناديت لك البعبع»، وكانت أرواحنا ترتبك من تصور البعبع هذا، ونحن نتساءل إن كان هذا «البعبع» من الصنف الآدمي أم الحيواني. وحين كنّا نتمادى في الشقاوة، كانت تهددنا قائلة «اسكتوا وإلا ناديت لكم الشرطي»، وكان الشرطي الذي كنا نراه يعبر شارع حارتنا بزيه المختلف وبازراره المعدنية الملتمعة بؤكد عندنا هذا الرعب.

وكان الرعب يصل أوجه في أوردتنا حينما تصل الحكايا إلى الحديث عن الجان والأرواح الشريرة التي من الممكن أن تحتل أرواحنا وتتلبسنا.

إن جيلاً عربياً كامل الدسم قد تعرض لتشويهات خرافية تربوية خلال تشكله الطفولي الأول، جعلته يبدو جباناً في التعامل التبدلات المناخية ومع العتمة ومع تحاشي الوحدة ومع الشرطي الذي يمثل السلطة.

جيل لا يشبه ذاك الطفل الذي رمته أمه في الموج المتلاطم للبحر، وهي تضحك عليه وهو يواجه قدره وحده في أول تجربة مع البحر.

جيل دفع الكثير من فواتير رعب الحكايات الخرافية المدمرة للروح.

 

 

 

 

 

 

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه

تويتر