أبواب

قطار الاحتجاج

زياد العناني

قبل ربع قرن كانت أمي حين يدهمها الصداع تضع قشة صغيرة على جفنها، وبعد أن تتماثل للشفاء، كنا نسأل كيف استطاعت تلك القشة أن ترفع عتبات المؤلم من رأس أمي من غير أن نجد جواباً مقنعاً.

بعد ربع قرن اكتشفنا أن أمي كانت تبدل موضع التركيز وتتحايل على المؤلم وتنشغل عنه في إحداث طارئ آخر ومنطقة أخرى، أما الآن وفي أي مقارنة بين صداع أمي وصداع الحكومات العربية نجد أن الحالتين في تشابه يصل إلى حد التطابق، سواء في خداع الألم من خلال الانشعال عنه، أو في دمج الفشل السياسي والاقتصادي بشنأ الاعتداءات الآثمة على قوت المواطن وكرامته.

وبناء عليه لا غرو أن نجد أن الحكومات العربية تريد الآن أن تعترف بوجود القشة فوق الجفن، ولا تريد أن تعترف بالصداع الذي يعني أن الجسم كله يتعرض لمأزق مرضي يفوق أو يتفوق على مناعته، رغم وجود القوات الأمنية، وأن التشخيص في حد ذاته، قد يكشف كارثة الخلط بين المنافع العامة والمكاسب الخاصة.

لقد كشف تململأ الشارع العربي أن النظم الأمنية التي تعتمد عليها الحكومات لم تعد تشكل حاجز حماية لها، وأنهاأ في ساعة الحق لن تخوض حرباً بالوكالة عنها، خصوصاً إذاأ تيقنت أنها تفتك بالشعب الذي تنتمي إليه، أو أحست أن الرهان على القوةأ لن يجدي نفعاً أمام من يحرق نفسه ولا يعبأ بحياته، بعد أن مل وتساوت حياته مع الموت في كل الظروف الصعبة التيأ تدمغها الحكومات دائماً بقلة الإمكانات.

من يراقب الأوضاع العربية الآن سيجد أن منطق الشارع قد دحر منطق الدولة وما آلت إليه من انكار للواقع العيني، وأن كل تحركاته التي تتم هنا وهناك لم تعد عفوية أو خصيصة حزبية، وإنما هي تحركات إصلاحية تشع بكامل ألوان الطيف السياسي وتتسع يوماً بعد يوم، وهي تنظم نفسها جموعاً غفيرة تنتقد القرارات السياسية الخاطئة التي وطنت الفساد بيننا وحمته وبدلت الأمان والاطمئنان وراحت تكنز الأموال في الخارج،أ مستغلةأ مآثر الصمت ومحتمية بالديكور الديمقراطي الممتنع أصلاً عن مساءلة الحكومة والمستغرق في تمويه دوافعها.

أثمة حكومات عربية ملأى بالاستهتار تسيطر على الميزانية وتشارك في الأرباح مع كبار التجار، وتتعامل مع الشعوب، كما تتعامل مع فئة ضالة متجاهلةأ تكوينها وثقافتهاأ، معتبرة أن المعارضة بلا وطن وأنهاأ الوطن كله، متناسية أن فوهات البنادق لن تغلق أفواه الناس حتى لو وضعت فرعاً لها في كل بيت وفي كل شارع، وحتى إن فرضت ثقافتها المتدنية وصارت هي الناطقة والمسموعة والمكتوبة والمصورة.

لقد انطلقت ثقافة الاحتجاجأ ولن تتوقف إلا حين تبدأأ مشروعات الإصلاح واضحة بلا قمع، وبلا قنابل مسيلة للدموع، وبلا رصاص، وبلا رشى أو امتيازات ومكاسب متأتية من تبادل الخدمات التي تتم على حساب الوطن، وبلا حلول اقتصادية مكتظة بالسيئات والتصورات القائمة على تسفيه مطالب الناس، وشد الأحزمة على العظمأ والتنكر لدعمهمأ وحقهمأ في الحياة بحجة أن الغلاء عالمي، أو بحجة عجز الموازنة الذي صار أكثر من طبيعيأ ليس في البلدان الفقيرة فقط، وإنما في العالم كله.

zeyad_alanani@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر