أبواب

جيل التلقين

خليل قنديل

مفارقة عجيبة عاشتها الأجيال العربية منذ قرون كثيرة، وهي عدم إقرار الجيل الذي يرث الجيل الآخر بإيجابيات الجيل الذي سبقه، وبالمقابل نجد أن الجيل السابق يكرس معظم وقته التربوي لتلقين الجيل خصائص الفضيلة ومكارم الأخلاق، وعظمة التاريخ الماضوي العربي، وتحديد الذي يجوز والذي لا يجوز، وحينما يتسرب إليه اليأس من الإصلاح، تراه يركن إلى التوبيخ وعدم الإقرار بالاختلاف بين زمنين، زمن الجيل الأول وزمن الجيل الثاني.

على كل حال، فإن الجيلين، المضارع القائم حالياً والجيل السابق، لم يتخلصا من فكرة التلقين كتوجيه تربوي، لمواجهة كل أشكال الحياة وتقلب ظروفها.

وتبدو كلمة «يجب عليك» ملاصقة تماماً ومحاذية في نطق فكرة التلقين، ومتآخية معها بشكل قسري، فهناك أجيال عربية عاشت معظم سنوات القرن الفائت على أساس الحفظ والتلقين، وعلى الرغم من أن الجيل الذي ولد في مطلع القرن العشرين هو جيل اليتم المعرفي بامتياز، وجيل الخسارات الحضارية المتتالية الخارجة من رحم الحكم التركي العثماني، والهجمة الاستعمارية القادمة على الوطن العربي آنذاك، فإن هذا الجيل بدا متعلقاً بالتأسيس لفكرة التلقين، في كل المعارف الأخلاقية والاجتماعية، وعمل هذا الجيل على تلقين المعارف ذات الأصل الشفهي للجيل اللاحق الذي يليه، وتكريس فقه «العنعنة» في توريث بعض المعارف الاجتماعية وحتى الفكرية والعلمية.

وفي الخيط الموازي لفكرة هذا التلقين المتعسف، كان هناك خيط التلقين الذي بدأ ينمو، وترعرع في المدارس التربوية والتعليمية التي نشأت حديثاً، فاعتمدت المناهج المدرسية في أسلوب تعليمها على التلقين الببغائي للطلاب، وأصبح المعيار الوحيد لتميز الطالب المتفوق عن الطالب الفاشل هو قدرة الأول على تقبل فكرة التلقين وتقمصها، وعليه فإن الكثير من العقول الأكاديمية التي فرخها لنا القرن الـ20 ، هي عقول منزوعة القدرة على الابتكار، ومنزوعة القدرة على التعامل مع المُعطى المعرفي، ولن نبالغ إن قلنا إنها العقول التي امتلأت دراسياً ومعرفياً بكم التلقين وحفظ المعلومات، وإن مهارتها التفوقية اعتمدت في الأساس على مهارة تعبئة الرأس بالمعلومات وإعادة نطقها تلقينياً.

إن لعنة التلقين الببغائي مازالت تهيمن على مناهجنا الدراسية، ومازالت شخصية الطالب «البصيم»، كما يطلق عليه، هي الشخصية المتفوقة والمتميزة، وإننا كجيل قائم حالياً مازلنا نمارس نهج التلقين التربوي على أبنائنا، من دون أن نمنحهم ولو فسحة بسيطة للانخراط مع الأفكار والتفاعل معها، وربما هنا بالضبط يكمن سر عرجنا الحضاري، وعدم القدرة على دخولنا شركاء حقيقيين في العصر.

khaleilq@yahoo.com

 لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه

تويتر