5 دقائق

عدوى إحراق النفس

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

انتقلت عدوى إحراق النفس من بلد لآخر؛ ظناً منهم أن ذلك سيغير ما حلّ بأوطانهم من بطش ونكال، فيفدونه بأنفسهم ولو بالذهاب إلى سوء المآل، عملاً بقول بطل الجاهلية عنترة العبسي:

لا تسقني ماء الحياة بذِلة            بل فاسقني بالعز كأسَ الحنظل         

ماء الحياة بذلة كجهنم                 وجـهـنـمٍ بالـعـز أطـيبُ منــزل

ولا ريب أن جاهلية اليوم هي أشد من الجاهلية الأولى، فقد كان في الجاهلية الأولى حمية للقبيلة، وتراحم بين العشيرة، ونخوة عند الفاقة والمصيبة، أما اليوم فإن الحال فيها كما قال الشافعي:

تموت الأسد في الغابات جوعاً      ولحم الضأن تأكله الكلاب

فمن الذي يرثى لأولئك المغرورين بإحراق أنفسهم؟! إنه لا عزاء لهم، ولا أسى عليهم، ولا سلوة ببقائهم ولا فنائهم، فلماذا هذا التهافت على جهنم التي أعدت للظالمين؟ وأكبر الظلم أن يظلم المرء نفسه فيوبقها بالهلاك، ويحرقها بنار الدنيا توطِئة لتحرق بنار الآخرة التي وقودها الناس والحجارة، أما علم أولئك البسطاء أنهم لا يملكون أنفسهم، وأن أجسادهم ملك لله الذي خلقهم لمعرفته وعبادته، وقال لهم: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِن اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فإن هم خالفوا نهيه فقد أعد لهم ما لا طاقة لهم به من العذاب المهين، أخبر عنه الحق بقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَد لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} وإذا كان مثل هذا للتعدي على الغير؛ لأن نفسه محترمة كنفسك، فنفسك التي بين جنبيك أولى؛ لأن الخالق الرازق استعمر هذا الكون بني آدم؛ ليقوموا بواجب عبادته ويتبلغوا بما خلق لهم فيه من كنوز خيراته، وقد يبتليهم بضيق العيش وجور السلطان، وخراب العمران وذهاب الأمان، ولكن ذلك ليس مبرراً لأن يبادر المرء ليلقي نفسه بالتهلكة، ويستعجل الموت، فإنه آتيه، ولكن في الوقت الذي يريده الخالق المالك، فلا يفتات عليه في صنعته وهدم بِنيته، فإن ذلك من الظلم الذي حرّمه الله على نفسه وجعله بين عباده محرماً، وحرماتُ الله تعالى حمىً لا تنتهك، وحدود لا تتعدى، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما لذلك المنتهك لحرمات الله بقتل نفسه من العذاب بقوله «من قتل نفسه بحديدة جاء يوم القيامة وحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً أبداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً أبداً» ذلك جزاؤه الأليم في الآخرة، وقد كان صلى الله عليه وسلم مع بالغ رأفته ورحمته بالمؤمنين لا يصلي على من قتل نفسه تغليظاً عليه في العقوبة، وإشارة إلى أنه لا تنفع فيه الشفاعة، كما روى البخاري مرفوعاً «عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة» فأين هؤلاء المنتحرون من هذا الوعيد الشديد؟ وأين صبرهم على الابتلاء، وشكرهم عند الرخاء، فالدنيا ليست دار خلود، فلابد من الشرب من حلوها ومرها، والصبر على خيرها وشرها، وهي أهون من أن تُقتل من أجلها نفس مسلمة، أو تنتهك من أجلها حرمة، وإذا لم يصبر المرء على شظف العيش في دنيا فانية، فأجدر به ألا يصبر على حرّ النار وغضب الجبار، فما أشد خسارته في الدنيا والآخرة!

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر