أبواب

عافية الكتابة

خليل قنديل

تظل روح الكتابة الوثابة، عصيّة على التقزيم العمري لصاحبها، وتظل معافاة من تغضن الملامح ومن تلك التجاعيد الهرمة التي ترتسم على الملامح، ومن تلك الانحناءة في الظهر وتلمس الطريق بالعصا.

إنها الكتابة التي تنبع من أعماق الروح المعبّأة بالدهشة والرؤى واستكناه المختبئ خلف نهر الحياة الهادر، والتلمس الشفيف لحمحمات العمر، وصهيل الزمن، ومتابعة ومراقبة الحياة بعين صقرية تبدو كأنها ترى الحياة للمرّة الأولى.

إن الحالة الفيزيائية لجسد الكاتب ليست مثل الحالات الفيزيائية التي تصيب عامة الناس، وتقودهم بتلك الخنوعية المرّة إلى وحشة الهرم ووحدته المميتة. إن جسد الكاتب ومنذ اللحظة الأولى التي اصطادته فيها الدهشة المربكة، وقادته نحو تحبير رؤاه، وبدء الكتابة، إن هذا الجسد منذ أن حطت في خلاياه تلك اللحظة المدهشة بدأ برسم شكل القطيعة بين امتداد عمره الجسدي زمنياً، و عمر روحه التي ستظل محافظة على رشاقة وخفة الاتصال بين روحه والعالم المحيط به. إن الروح ها هنا دخلت في النضارة الشبابية الدائمة، مثلما بدأت أيضاً بفك الارتباط بين وعكات الجسد وطلاقة الروح المعفاة من ضرائب الوهن المرضي.

إن كتاباً كثراً يحضرون في هذا السياق كي يؤكدوا ما ذهبنا إليه، في أن أرواحهم لم تطلها الشيخوخة ولا تغضنات الزمن، بل بقيت معافاة تنبض بالحياة حتى آخر رمق كتابي.

فالكاتب المسرحي البريطاني برنارد شو كتب العديد من المسرحيات النابضة بالحياة والسخرية، بعد أن تعدى عمره الـ 70 عاماً، أو ما يزيد على ذلك، وظلّ يكتب لنا الشخوص السوبرمانية الشابة، ويستل منّا الضحكة العميقة القائمة على المفارقة الجارحة.

ويمكن الاستدلال على قوة روح الكاتب وعمقها حين نستذكر كتابات المفكر والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، الذي تجاوز عمره الـ80 عاماً وهو يكتب أعقد الروايات والأفكار الخاصة بالفلسفة الوجودية.

وكذلك اجثتا كريستي التي ظلت حتى آخر أيام عمرها تكتب الروايات البوليسية المعقدة، التي تحتاج في بنائها إلى عقلية شبابية فذة، كي تسيطر على هذا النسيج الروائي المعقد.

والأمر ذاته ينطبق على الروائي العربي الراحل نجيب محفوظ صاحب «نوبل»، الذي حينما اعتدى عليه جسده فيزيائياً بفقدان النظر والسمع في آخر عمره التسعيني، اضطر إلى استدعاء أحد الكتاب المصريين كي يلقنه حلم كل ليلة، ويمليه عليه بأدق تفاصيله.

إن الكتابة وهي ترى صاحبها، وقد أنهكته الأمراض والشيخوخة وارتجافة الأيدي، وتقاطر الأطباء على معاينة الجسد المنهك، هذه الكتابة تظل تنهض في الروح، كي تجدد شبابها وتعيده إلى مربع الدهشة الأولى.

ولهذا نظل نهتف، وكلما تقدمنا في العمر، قائلين «ستظل الكتابة خندقنا العمري الأخير، لأنها وحدها التي تحمل ايقونة الشباب السحرية في أعماقنا، ووحدها القادرة على فك طلاسمها».

khaleilq@yahoo.com

 لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر