يا جماعة الخير

التأمين الصحي.. هل هو دمٌ مستباح؟

مصطفى عبدالعال

دخل الرجل عيادة الطبيب المرموق في أحد الأبراج الفارهة وأخذ دوره من المديرة الأجنبية التي لا تعرف كلمة عربية في بلاد الجزيرة العربية، وعبأ استمارة بيانات، ثم تسلّمته مضيفة كأنها من عارضات الأزياء ومشيا على سجادة حمراء إلى بهوٍ فخمٍ به استراحة الانتظار، وهناك استقبلته أخرى لتجلسه وتضيفه بأنواع من المشروبات على أنغام موسيقى حالمة، وعلى أركان البهو أربع (شاشات بلازما) كبيرة، على كل منها قناة تلفزيونية تغطي كل الأذواق والرغبات. قال الرجل في نفسه: هذه الضيافة فقط أضعاف مضاعفة للخمسين درهماً التي دفعتها مع صورة بطاقة التأمين. ومر وقت لم يشعر به حتى سمع اسمه ينساب بصوت ناعم عبر إذاعة داخلية فقام لموعده.

فلما جلس إلى الطبيب وكشف له عن قدمه، فإذا بالطبيب بنظرة عابرة على القدم يمسك ورقة مطبوعة وبيد مدربة يضع علامات على مسميات عدة فيها ويدفع بها بصورة آلية إلى ممرضته التي وقفت متأهبة لتسلم الورقة، وأشار الطبيب إليه أن يخرج معها قائلاً: اذهب لعمل التحاليل والأشعة العادية، وخذ موعداً لأحضر موافقة التأمين ثم تأتيناً صائماً لتحليل وظائف الكلى والأملاح وفحص كامل للدم، وأشعة على الكلى وأخرى مقطعية على العمود الفقري.. قاطعه الرجل ما تشخيصك؟ قال الطبيب لا أدري، ربما نقرس ربما (روماتويد) ربما.. سننظر بعد التحاليل والأشعة، فقال الرجل ولكنني أدري يا دكتور! إنه مجرد ارتطام بالدَرَج جعل الأصبع ينثني تحت القدم ولا يحتاج إلا إلى فحص باليد أو على الأكثر أشعة عادية! فقال الطبيب: يا سيدي وماذا عليك، لن تدفع شيئاً، فالتأمين سيتحمل كل شيء، فغر الرجل فاه وهو يحملق في طبيب تخرج في كلية الطب ودرس على نفقة الدولة داخلها وخارجها حتى نال درجة الدكتوراه ليستفيد الناس من علمه، فهل يغيب عن مثله أن المسألة ليست مَن الذي سيدفع؟ إنما لماذا نجعله يدفع؟ أليس مالاً وسنُسأل عنه من أين وإلى أين؟ وهذه العيادة أو المركز بأبهته وطاقمه الأجنبي ومعامله ومعداته هل جاء من الخمسين درهماً التي أدفعها أم من الألوف التي تُحصّل بغير حق؟ وكم من مستشفيات ومراكز طبية يكرر القائمون عليها عبارة: وماذا عليك، لن تدفع شيئاً، فالتأمين سيتحمل كل شيء!

وكثيرة جداً هي المستشفيات الحكومية والخاصة التي يراعي القائمون عليها الترشيد في الإنفاق مع من لا يحتاج، وفي الوقت نفسه الوقوف بكل الإمكانات مع من يحتاج ويغطي التأمين فيها بحق مئات الألوف، والغالبية العظمى من الأطباء كذلك في الترشيد، لكن البعض لو أنصفنا لا ينتبهون إلى أنها أمانة، ولن تكون فقط يوم القيامة- بل في الدنيا - حسرة وندامة! ومن 450 سنة قبل الميلاد حفظ تاريخ الطب قَسَمَ (أبوقراط) على الأمانة الطبية، الذي يتجدد على مر العصور، فإن نسيه الطبيب فهل ينسى قوله صلى الله عليه وسلم: « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَان».

المستشار التربوي لبرنامج «وطني»

mustafa@watani.ae

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر