5 دقائق

أزمة تدفق السيولة

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

كان من مواضيع دورة المجمع الفقهي العشرين، المنعقدة أخيراً بمكة المكرمة: أزمة تدفق السيولة لدى المصارف الإسلامية، أي توافرها بكثرة قد تعجز عن استثمارها، فكان ذلك مثار استغرابي مع آخرين كثيرين، وتساءلت أمام الجميع: هل كانت هذه الأزمة لقلة رواد المصارف؟ أم لتعنتها بعدم تسهيل المعاملات، ورغبتها في طلب أرباح خيالية تفوق ما تطلبه البنوك التقليدية من فوائد؟ ما يجعل الكثير ممن لا يرغبون الدخول في حمأة الربا المقيت الدخول فيه فراراً من ذينكم السببين، وقلت للحاضرين: إن المصارف الإسلامية قامت لتحقق ثلاثة أهداف رئيسة هي: تخليص الناس من الربا بتوفير البديل البنكي الإسلامي الذي أصبح من ضروريات الحياة المدنية، بطريقة أكثر تنافسية وربحية. وتحقيق التنمية المجتمعية، وتحقيق التعاون الاجتماعي والنفعي بين الناس.

وكل هدف من هذه الأهداف كفيل لأن يُقبل الناس عليها زرافاتٍ ووحدانا، إذْ من الذي يريد الدخول في حرب خاسرة مع رب العزة والجلال، في المعاملات الربوية التي تمتص الخيرات، وتمحق البركات، وتجعل المرء في هم دائم، وذل قائم، فلا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، مما يصيبه من حيرة بخسارة ماله، وضعف حاله؟ فلو أن مصارفنا المفضلة، أدركت هذا لما توافرت لديها السيولة لتلبية حاجات روادها من الأفراد والمؤسسات، غير أنها تتناسى أهدافها وهي واجبة الذكر، وتجري وراء أرباح خيالية لتنال قصب السبق بين المصارف التقليدية، من غير رضا المستثمرين، ولا رغبة المؤسسين والمودعين، فإن أغلب من يأتي إليها يريد منها ربحاً طيباً نقياً إن تيسر، ويريد أن يعينها على تحقيق أهدافها الخيرة، يحمله على ذلك وازع الإيمان وحب الأوطان. ومعلوم أن الأصل في إدارة المصارف الإسلامية أنها إدارة استثمار، لا إدارة سيولة، أي أن مهمتها الأولى هي استثمار أموال المؤسسين والمودعين في المشاريع التجارية المختلفة، ومعلوم كذلك أن التجارة القائمة على الكياسة تحقق أرباحاً مغرية، وقد ورد أن «تسعة أعشار الرزق في التجارة»، وورد أن «التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والشهداء يوم القيامة»، فستحقق بلا ريب التنافسية الراقية، والربحية الوافرة، لو أنها اتخذت هذا الأسلوب التجاري الرائع منهجاً ماثلاً، ولكانت في غنىً عن هذا البحث المجمعي، والحديث الصحافي، فما الذي يجعل السيولة لديها بهذه الكثرة وهي تستطيع أن تنشئ المصانع والمزارع والفلل والأبراج، وتستورد القليل والكثير، وتوفر حاجة الصغير والكبير؟ ما الذي يحملها على أن تتحول من إدارة الاستثمار إلى إدارة السيولة، فتنتج أحياناً منتجات رديئة، لا تكاد تختلف عن المنتجات التقليدية شكلاً ولا مضموناً، ما يجعلنا في حرج كبير مع الجمهور ونحن ننافح عنها بكل ما أوتينا من حجة وقوة بأنها البديل الحصري للمعاملات البنكية التقليدية، وأنها الخيار الأمثل للاستثمار، كان يغنينا عن المنافحة، ويغنيها عن التسويق؛ المنافسة الحقيقة بتقليل الربحية والنزول إلى السوق بكرة وعشية؛ لتوفير المتطلبات الشعبية، وتشارك التجار في السلع والآليات والمخاطرة بالأموال في أبواب التجارة المختلفة حتى يقتنع الناس أنها مضاربة بالأموال في ميادين الكسب الحلال، لا جَرَم أنها لو فعلت ذلك لخرجت من أزمة السيولة المتدفقة وأزمة الثقة المحققة، وكان حديث الناس عنها حديث المعجب الناصح لا حديث الشامت الفاضح.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر