أبواب

مسارات جمالية

قيس الزبيدي

تتميز مدينة بيروت بخصائص نوعية ذات مساحة أوسع، نسبياً، من الحرية والانفتاح، وتخضع إلى كم أقل من رقابة الدولة، وتمثل فيها تجربة الحرب الأهلية رهانات فنية للذاكرة، يدين الفنانون عبرها الصمت والتعتيم والمكتوم. أما مدينة دمشق، فعلى الرغم من أن الدولة قيمة فيها على أسس الثقافة، إلا أنها حررت الفنانين من ضغوط السوق ومكنتهم من توليد أشكال فنية «طليعية»، لكنها ترغمهم على أن يخطوا دربهم بين الولاء والحياد والمعارضة عبر الخضوع، بالمقابل، لإطار إداري بيروقراطي.

بالتعاون مع المعهد الفرنسي في بيروت، أصدرت دار الفرات كتاب «مسارات جمالية ومشاهد ثقافية في الشرق الأدنى/ نهاية عام 2010» ـ ترجمة رندة بعث ـ عن مساهمة مدينتين في ديناميات ومسارات الفنون والثقافة وعلاقتهما بالوضع السياسي. ويهمنا هنا أن نتطرق إلى القسم الرابع «تحت وطأة الضغط» الذي كتبته الباحثة سيسيل بويكس في المعهد الفرنسي بدمشق، وتناولت فيه وضع السينما، استناداً إلى شهادات وتجارب ستة مخرجين، تطلق على كل منهم تسمية غريبة مثل «نبيل المالح مخرج ذو حياة مزدوجة»، و«عمر أميرالاي مخرج عابر للقومية»، و«عبداللطيف عبدالحميد سينمائي توافقي» و«أسامة محمد سينمائي على هامش المؤسسة» و«غسان شميط سينمائي على هامش المهنة» و«رياض شيا سينمائي ملعون»، ترك المالح بصمته القوية على السينما السورية وأعتقد في بداية السبعينات الذهبية، أن السينمائيين سيخلقون حركة سينمائية بديلة، لكن جاءت بعدئذ فترة بيروقراطية تعطل فيها الإنتاج أو أصبح على السينمائي أن ينتظر سنوات عدة ليحقق فيلمه، وهو إذ يدين البيروقراطية التسلطية يدين أيضاً زملاءه السينمائيين، لأنهم أصبحوا مجرد موظفين. وتأتي تجربة عمر أميرالاي التسجيلية المهمة، الذي بدأ ينادي منذ السبعينات بتصفية المؤسسة، لأنها قطاع بيروقراطي، من دون أن يطلب من الدولة التخلي عن مسؤوليتها تجاه السينما.

وعلى الرغم من أن عبداللطيف عبدالحميد استطاع أن يخرج ثمانية أفلام حتى الآن، إلا أنه انتظر ست سنوات ليخرج فيلمه الأول «ليالي ابن آوى» وهو يصرح بأنه: «شديد النشاط، فما أُنهي فيلماً حتى أحمل آخر داخلي» ويعزو وفرة إنتاجه «لذكائه في طريقة قوله للحقيقة». بينما صادفت تجربة أسامة محمد الفنية، صعوبات كثيرة في انجاز فيلميه «نجوم النهار» وجعلته «مشبوهاً في عيون الإدارة ويجد الفن أهم من السياسة». وربما حالف الحظ نسبياً غسان شميط، الذي أخرج ثلاثة أفلام ويعد الآن فيلمه الرابع، ويتمنى لو انه صنع عدداً اكبر من الأفلام، وكان عليه أن «يكون ذئباً، ليصنع أفلامه»، وتأتي أخيراً تجربة رياض شيا، الذي أخرج فيلماً واحداً لينسحب، لأنه يكره إخضاع الفن لأي شكل من أشكال الضغط والمساومة ولأنه يرفض التعبير عن كل ما لا يتعلق بجمالية السينما ولا يريد ممارسة نشاطه في نظام مؤسسة يدينها، لكنه مازال موظفاً فيها.

ما فائدة دراسة تنظر بنظارات أيديولوجية إلى ضغط الأيديولوجيا في السينما، وتستعين بشهادات «مستقطعة» لتكرر كل ما هو معروف ومُتداول وتعجز عن النظر، بعمق، إلى إشكالية الأفلام نفسها، علها تقرأ فيها ما هو إبداعي حقا وما هو سياسي!

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر