كل جمعة
خسائر مستمرة
تذكرت كتاب المفكر الفرنسي ميشيل فوكو «المراقبة والمعاقبة» عن تاريخ العقوبات، وكيف يظل التاريخ مستمراً عند أمم تتوقف حضارياً عند نقطة ما، وتستمتع بذلك، وربما تزهو أيضاً، وأنا أشاهد بعض ما يكتظ به موقع «يوتيوب» من صور حية لنساء ورجال عرب يتعرضون للجلد على نحو يخلو من أدنى الاعتبارات الإنسانية، وآخرها صورة امرأة كانت تفترش الأرض وتصيح بألم وتوسل تحت سياط رجلين ينفذان القانون العربي في جزء من هذا الوطن الكبير.
رجلان كانا يتفننّان في تعذيبها وتهشيم روحها بألفاظ جارحة، والنتيجة مزيد من القتامة في صورتنا في هذا العالم الصغير، وكثير من الأذى لحاضرنا ومستقبلنا، والأهم أن لا جدوى من هذا الجنوح الغريب للتطرف وترويجه، فالحياة تُسرع من حولنا بقيم جديدة، ونحن لم نعد قادرين على التكيّف معها، ولا التصالح مع شروطها، والقبول بها، إذا أردنا البقاء في العربة ذاتها مع سائر الأمم.
لا مكاسب أبداً من هذا الجدل العقيم حول مشروعية جلد امرأة تتوسل رجالاً فرحين بقرقعة السياط على جسدها. لا مكاسب معرفية حين يقول أحدهم إن جلدها المريع سيردع نساء أخريات عن تكرار ما ارتكبته، ولا فائدة من النقاش حين يقول ثانٍ إنه يجب جلد الأجنبيات اللواتي يخالفن القوانين في العالم العربي والإسلامي، ولا معنى لأي حوار مفيد إذا كنا على يقين تام بأن استخدام السوط بكل ذلك التوحش عقاب ملائم أو ضروري في القرن الحادي والعشرين.
ماذا فعلت المرأة لتستحق ذلك التعذيب؟
لا إجابة قاطعة. فثمة من يقول لأنها كانت ترتدي البنطلون الممنوع في بلدها، وثمة من يؤكد أن السبب هو أنها كانت تمشي في الأسواق حاسرة الرأس، بينما تشير وسائل إعلام إلى أسباب أخرى، وكلها لا تبيح فظاعة المشهد الذي يخلو من قيم الرحمة والستر والرفق بالإنسان، في ضعفه، وفي بشريّته، وفي أخطائه.
نحن من يروّج هذه الصورة، ونحن من يحرص على تكريسها، وقبل ذلك نحن من يرتكب كل ما يسيء إلينا، ثم نلوم الغرب حين يُلوّح لنا بحقوق الإنسان، وحين يرتاب فينا في المطارات ومحطات القطارات، ويضع القيود على تحركاتنا في أراضيه وأجوائه، ثم لا تجد النخبة العربية مساحة ملائمة لتبرير عجزها عن التأثير سوى القول إن الآخر يريد ترسيخ هيمنته أولاً وأخيراً، وليس في وارد حوار حضاري قائم على التنادد.
ويستمر هذا الإنكار المزمن، وعلى من يعيش في الوطن العربي ويرى مقطع فيديو لامرأة تتعذّب تحت سياط جلادين يصورونها بأنفسهم أن يفكّر كيف يمكن إقناع العالم الحديث بأننا أنداد حضاريون، وهو تجاوز منذ عقود النقاش في حقوق المرأة والإنسان، بحيث أصبحت جزءاً من دساتيره وقوانينه وثقافته؟
ربما نصلح أن نكون أنداداً لأمم قديمة، كانت العقوبات فيها على أخطاء البشر هي الحرق ونزع اللحم وتقطيع أجزاء من الأجساد، كما تعرض السينما جزءاً من التاريخ، حين كان العقل مرتعاً للعتمة، وحين كانت الفظائع تُرتكب باسم قوانين بائدة، لم تصمد أمام الحياة، بكل صعودها القوي نحو الحداثة والحضارة.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .