5 دقائق

زايد.. الاستثناء

ميره القاسم

بعض ممّن نحبهم.. يسجّل غيابهم حضوراً لا يفارق العينين والقلب معاً..

بعض ممّن نألفهم ويألفوننا.. نعلم يقيناً أنهم يحيون تفاصيل حياتنا حتى وهم على بعد جغرافي بمنطق التعايش البشري..

الاستثناء هنا هو الراحل الكبير.. الوالد زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه..

هو وحده المنسلّ من بين خصائص الوجود.. الذي ترك لنا إرثاً من المعاني التي يصعب أن تأخذها أيادي الزمن في تقلبه وعدم ثباته على حال.. المقرّب من جوهر التراث كما لو أننا لم نفهمه جيّداً قبله.. لأن ثمة فارقاً بين أن نكون في التراث.. وبين أن نعي أننا تراث يسير على قدمين.. بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.. أي بأن ينعكس على خياراتنا اليومية.. وجودنا الذي نعلم أننا لن نخرج منه إلا عليه.. جدلنا في تواصلنا او انقطاعنا مع العالم الجديد الذي بتنا مؤمنين بضرورة فهمه لكي نحافظ على أبعاد الخصوصية التي لم يتبقَ لغائياتنا الكثيرة إلا هو.. نستذكر ما رأته العين.. أو لمسته القلوب.. أو استشفّته المشاعر.. أو تباهت به الأفواه.. نرى فيه - على غيابه المعمّق حضوره - تراثاً يسير على قدمين.. وجناحين يطيران بمحبة متناهية.. لأجيال جعلت منه - وهي محقة - قدوة يصعب أن تتكرر في واقع يخلط بين أشياء كثيرة لا تكاد تُفهم بصورة جليّة..

بعد تلك السنوات من بناء الاختلاف في دواخلنا.. الاختلاف عن كل ما خارج سرب واقعيتنا التي ننشدها.. مازلنا ننشده مدى رحباً.. عبر قصيدة أو محفل أو سماء أو سحابة.. هو وحده الذي يمطرنا مواطن ومسافات تقرّبنا منّا إلينا.. وتجعلنا نؤمن بيقين مدهش بأن ما كنّاه ما كنّا لنعيه لولا استباقه بذكاء فطري لما ينبغي أن نكون عليه.. وصرناه حقاً.. بفضل ما غرس من خير.. وزرع من ودّ.. وأثمر من حميمية..

بعد مرور سنوات.. لن نجعل من الكتابة سوى معبر حرّ لزمن يقينيّ أردناه.. وكانت الخطوة الأولى على يديه.. وكنّا له رملاً من صدق.. ومدينة من زخرف.. وكان يزّيّن للعالم تراثاً أصيلاً ممهوراً بأصالة لا تعرف الحيد أو الميل.. شعراً ونبلاً واستقلالية وإنسانية..

حي في قلوبنا مازلت تسري مع كل قطرة في الروح إلى الوجدان، وكلما نظر إلينا هذا النخيل السامق وحبات الصحراء المتناهية انتماءً إليك.. أنت مازلت في عيون أبنائك الذين جمعتهم تحت ظلالك ليكونوا وطناً أبياً، ها هم اليوم يحتفون بما أسست وبما نظرت في الخفاء والعلن، ينشدون أشعارهم فيك، ويذرفون دموعهم الدافئة اشتياقاً إليك، ها هم أبناؤك ينثرون من عبقك كل قطرة يحصلون عليها، فهذا يحوّل منزله إلى معرض صور جمعها على مدى السنين لك، وآخر يجمع القصائد، وثالث يكوّن مكتبة صوتية لمأثوراتك، كلهم اتفقوا على حبك، دون أن يلتقوا إلاّ في حبك، وهناك منطاد يعبر البلاد كلها، يحمل وجهك الشامخ، وصوت تردده الحمائم والغيوم.. العالم لن ينساك يا زايد، فنَمْ قرير العين، ونحن من بعدك نرعى عينيك اللتيْن غرستهما في وجوهنا، لنرى العالم كله من بعدك كما أردت لنا أن نراه.

wahag2002@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها .

تويتر