أبواب

رثاء مفتعل

أحمد السلامي

يندمج المثقف بصورة مبالغ فيها في رثاء واقعه وإحصاء خساراته على أكثر من صعيد، لدرجة ان التعايش مع الواقع برمته، أصبح يستمد بقاءه أحياناً من كون المثقف لايزال يحمل في جعبته المزيد من الرثاء والشكوى.

صحيح ان على المثقف بالضرورة التحلي بوعي نقدي وتصورات حول العالم الذي يعيش فيه. لكن الفرق يبقى واضحاً بين نباهة الحس النقدي ومقترحاته وعجز الشكوى وطبيعتها البكائية التي لا تنتج الأفكار الملهمة. الأمر هنا لا يتعلق بأي منحى سيكولوجي أو حساسية لطالما ظلت لصيقة بشخصية المثقف والأديب، على الأقل حسب الوعي الجمعي الذي يسجن هذه الشريحة في خانة ضيقة، إذ استقر في الذهن العام ان الأديب صاحب شخصية سلبية لا تجيد سوى اللعب على الكلمات.

إلا أن هذه التهمة المنحدرة من زمن رومانسية الأدب لم تعد تؤمّن في الوقت الحاضر وقود الضجر القديم الذي كان يتحول إلى رثاء جماعي للأحلام. أعني أن الأديب الذي تخلص من ملامح التفكير الرومانسي، وجد أيضاً في الحداثة التي توجّه منطق النص والسلوك ما يبرر له الاستمرار في تقمص مشاعر الرثاء مع تلوينها بمسحة من التهكم والسخرية. وبعيداً عن هموم الحياة وكل ما ليس للمرء حيلة في تغييره. يتجه هذا الحس الرثائي المخلوط بالتذمر نحو التأسيس لفقدان الثقة بالأداءات المعنية بكل ما يمثل وسائل التواصل بين المبدع والجمهور.

واندماج المبدعين على اختلاف ميولهم في ممارسة دور اليائس من هذه الأداءات له ما يبرره من الناحية الإحصائية البحتة. ودائماً ما يحضر في لقاءات المبدعين مزاج الشكوى. وليس هناك من هو أجدر من الفنانين والأدباء بإحصاء الأحلام التي لم تتحقق، أو تلك التي أعاد الواقع صياغتها وفقاً لشروطه. وفي الآن ذاته لن تجد من هو أكثر براعة من المثقف عندما يتحالف مع السياسي ويجند قلمه في مديح إنجازات الوهم!

يمكننا أن نضع الفنانين ضمن شريحة المثقفين بهدف إيراد مثال: كأن يشكو المطرب الهيمنة التي تفرضها شركات الإنتاج على الفنانين والملحنين، ومدى تدخلها في شأن فرض مستوى ضحل من الكلمات والألحان، وقد يتحدث بأسف ومنطق ثقافي راقٍ عن دور المنتجين في تخريب الذائقة الغنائية العربية. بينما يتوجه في اليوم التالي إلى احدى تلك الشركات لتوقيع عقد جديد يسهم في تخريب الذائقة.

أضع هذا النمط من المواقف المفتعلة ضمن حالة الرثاء المتفشية التي تتم من خلالها تبرئة الذات من تحمل المسؤولية أو القيام بأي شيء، سوى الاستسلام للواقع، والتطهر منه بين فترة وأخرى عبر الحرص على افتعال مشاعر عدم الرضا. على أن يتم الافتعال بشكل مسرحي في حضور جمع من الناس أو في لقاء صحافي. أعني بهذه الإشارة صنفاً من الفنانين لديهم ثروات طائلة تمكنهم من اطلاق فضائيات عربية وشركات انتاج تعيد للفن اعتباره وتجعل الأغنية الجديدة توازن بين جمع النقود والارتقاء بالذائقة.

في هذا السياق، يمكن كذلك العثور على مثقفين وأدباء لديهم رصيد من العلاقات المتينة مع السلطات في بلدانهم أو مع أصحاب الثروات ومراكز القوى، وبوسع هؤلاء بين ليلة وضحاها أن يؤسسوا دور نشر ومراكز للترجمة ومجلات وملتقيات أدبية ذات مستوى عالٍ من الكفاءة والاحتراف. لكن الكبار والصغار يدمنون الشكوى ويتظاهرون بإبداء مشاعر القلق على حال الثقافة والفن من دون أن يبادر أحدهم إلى فعل أي شيء. وحين يؤسس شاعر ما داراً للنشر يتحول فجأة إلى تاجر لديه روح مقاول شره لجمع المال.

slamy77@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر