أبواب

التعايش مع قاتل متسلسل

أحمد السلامي

نحتاج أحياناً إلى طريقة مختلفة للتعبير عن مدى ملامسة عمل فني أو فيلم سينمائي لجوهر وجودنا. أكثرنا قدرة على التعبير بصدق لن يخجل من سكب دمعة، تختلط بنوع من الشعور بالامتلاء الداخلي والإحساس باكتشاف أسرار التعاسة التي ترافق حياة الإنسان. وكأن اكتشاف هذه الأسرار يشبه معرفة الضحية للجاني، وذهابها إلى التصالح معه وتبرير فعلته.

هكذا يستمر التعايش في الفن والواقع مع الحياة بكل مخاطرها. ذلك أن معرفة الإنسان بعض الإجابات، أو مجرد وقوعه في وهم المعرفة وملامسة حوافها، يجعله قادراً على تقبل مصيره والمضي في عبور الحياة حتى النهاية. أما أولئك الذين ينتحرون فإنهم يريدون الحصول على كل الإجابات دفعة واحدة. لذلك فإن تعلق الإنسان بالأمل يتصل بالتواطؤ الجماعي الضمني مع الحياة مقابل العثور بين مخالبها على ما يبرر تقبل المصير برضا وسعادة.

من وحي القراءات والمشاهدات السينمائية التي تدور حول الجوهري في تساؤلات البشر؛ سنجد أن كل الأفلام والروايات والقصص التي تستحث بداخلنا الشعور بالامتنان تجاه الفن لا تغادر الاشتغال على منطقة حساسة تقع في صلب المخاوف الإنسانية العابرة للأزمان. وعبورها الأزمان يجعلها أشد فتكاً من الصواريخ العابرة للقارات، لأنها مخاوف متجددة ودائمة ومرتبطة على الدوام بوجود الإنسان على هذا الكوكب؛ الوجود المقترن على الدوام بالألم.

هناك من حاول الفكاك من هيمنة هذه المخاوف عبر ابتكار نظريات فلسفية، تحاول علمنة الخوف من المجهول وترويضه، وتحاول كذلك دفع الإنسان إلى التخلي عن التفكير في مآلات الجسد وتوقه الفطري الأبدي إلى الخلود، في مقابل التركيز على اللحظة وإشباع حاجاتها حتى الثمالة، لكن الروح الإنسانية لم تكفّ عن التساؤل.

سنجد كذلك أن خريطة العذابات التي تؤرق الإنسان وتفترس تأملاته ليست معقدة كثيراً، إذا ما تجاوزنا التفاصيل التي تتفرع عنها كأغصان صغيرة. وكلما تقدم أحدنا في السن، اكتملت ملامح هذه الخريطة في وعيه وتعبيراته المباشرة. لكن الأمر المزعج هو أن اكتساب الحكمة والطمأنينة في خريف العمر يبدو مثل الفوز بجائزة نوبل في الشيخوخة.

وليس من الصعب اكتشاف أن مفردات مثل: الموت، السعادة، الخوف، الحب، الحزن، الانتقام، الأمل، تشكل مع مرادفات أخرى معالم خريطة هواجس الإنسان وتساؤلاته الأبدية. لكن الأصعب من إحصاء هذه المعالم هو التعبير عن أحدها في السينما أو الرواية بشكل يختلف عن تعبيرات سابقة، معظمها لم يفلح سوى في وصف الورطة الوجودية التي وقع فيها الإنسان، من دون أن تقدم حلاً للخروج منها أو التعايش معها بنوع من اليقين بإمكانية التغلب عليها.

وعادة ما نكتفي في كل مرة بالاستمتاع بطريقة وصف جديدة لهذه الورطة، لا تنجز غير الوصف ذاته، وكأن الإنسان بحاجة دائماً إلى استعادة مجموعة من الدروس التي لا تكف عن التحريض على التكيف مع الحياة في وجود قاتل متسلسل، يلبس قناع الزمن، ويختار ضحاياه بعناية، من دون أن يدفعنا ما يحدث بانتظام إلى الشعور بأن الأزمنة تكرر ذاتها، بقدر ما يدفعنا إلى الاستمرار في البحث من جديد عن طريقة أخرى للتعبير عن مخاوفنا التي لا تنتهي.

slamy77@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر