أبواب

مزاج للقراءة وآخر للكتابة

أحمد السلامي

ليس مطلوباً من الروائي سوى أن ينجز ما يحقق المتعة للقارئ، وهذا ما ندركه متأخرين غالباً بعد أن نتخلص من أهداف أخرى للكتابة كان من بينها إنقاذ العالم!

حتى الآن لا نزال نتداول الحديث بشغف عن أدباء أنجزوا كتباً وروايات مدهشة، لكنها لم تندرج ضمن أولويات مثاقفاتنا منذ البداية بدافع من نباهة فطرية. بل تلقفناها بعد أن تحققت قرائياً في الجغرافيا التي أنجبتها، وفي زمن ما قبل الإنترنت وما قبل قوائم الكتب الأعلى مبيعاً.

كنا نضع على صفحاتها خطوطاً وأقواساً عريضة، تتناسب وحجم اندهاشنا بالعبارات التي تفطن لمكمن عذابات الإنسان ومسراته، وتوجزها بكلمات قليلة، لا يخالطها أي نوع من ادعاء الحكمة الخالصة أو احتكار الحقيقة المطلقة.

نستحضر في هذا الشغف المعلن أسماء شهيرة مثل تولستوي وكازنتزاكي وجيمس جويس وهنري ميلر، وبموازاتهم نلجأ إلى المقارنة بين صراحة محمد شكري وجرأة رؤوف مسعد وعمق عبدالرحمن منيف. لكن الشغف بهؤلاء لا ينتقل إلى أصابعنا حين نكتب مقالاتنا وقصصنا!

لدينا مزاج مستيقظ للقراءة يعرف كيف وأين يمكنه العثور على ما يروقه، ولدينا في المقابل مزاج آخر للكتابة، ملتبس وخامل، ندعه يكتب تحت ضغط رغبة جماعية غريبة، تجبرنا على أن نخفي ما نحن عليه أو ما نحلم أن نكونه.

بمثل هذا الحديث يحاول صديقي الكاتب محمود ياسين تحريض من حوله على إعادة النظر في السيناريوهات التي تقود الكتابة. ولا يكف عن التساؤل بإلحاح: لماذا لا يكتب الأدباء بالمزاج ذاته الذي يوجه قراءاتهم؟

أظنني عثرت على شق من الجواب عن هذا السؤال أثناء قراءتي لمفتتح رواية جديدة لا علاقة لموضوعها من قريب أو بعيد بحالة الانفصام التي نفترض وجودها عند الكتاب الذين يغيب عندهم الاتساق بين مهارتي الإبداع والتلقي.

ما يمكن استنتاجه في هذا السياق هو أن موجهات الكتابة الإبداعية في الوقت الراهن لم تعد بمنأى عن التفكير في مآلات الأساليب والأشكال الحاضنة للكتابة، وهذا أمر لا يمكن تجاهله ولا يمكن كذلك العودة بالكتابة الإبداعية إلى وظيفة إنجاز المقولات المعنية بتفسير العالم بلغة مدهشة فحسب.

لقد أصبحت الكتابة الإبداعية تواجه مع مرور الوقت ضغوطاً معقدة تلزمها بالخضوع لاستحكامات جديدة لا يجرؤ الكاتب على تجاهلها بقدر ما يحاول ترويضها وتوطينها بحذر في وعيه ونمط تفكيره واشتغاله.

وفي نهاية الأمر تبقى الأفضلية من نصيب العمل الإبداعي الذي يوائم بين الجانب التقني والمضمون الإنساني للنص، بحيث لا يجعله يتحول إلى «مانيكان» لعرض تصميمات المشارط الآلية التي يتسلح بها النقاد.

هذا لا ينفي وجود أدباء يكتبون طبقاً لمقاييس الجوائز والمترجمين والنقاد الذين أصبح نفوذهم وتأثيرهم في الصحافة الثقافية يحدد قوالب الكتابة، ويشذب ما تبقى من الملامح التلقائية في الإبداع لمصلحة إنجاز كتابة آلية تضع في اعتبارها مواصفات النقاد المهجوسين بالتجريب وتلبية شروط ما بعد الحداثة في مجتمعات تعيش ما قبل الحداثة!

إن ما يبحث عنه النقاد شأن آخر يفترض أن القارئ غير معني بتفصيلاته وتجسيداته البارزة بشكل مفتعل في بعض الأعمال الروائية على حساب الرواية ذاتها وعلى حساب مقروئيتها.

slamy77@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر