كل جمعة
الخط الأحمر
إلا إذا تعلق الأمر بإسرائيل، فإن حرية الرأي والتعبير مكفولة في القوانين والثقافة الأميركية، ولها قدسية خاصة في الدستور، الذي نصّ أول تعديل عليه في العام 1791 على منع مجلس الشيوخ الأميركي من سنّ أية قوانين تمنع حرية النقد أو الكتابة أو الحد من حرية الصحافة.
لا يهمّ الدستور، ولا القوانين، ولا المصداقية الحضارية الأميركية إذا كانت إسرائيل طرفاً في أي شأن، والحرية مفهوم واسع المرونة وفضفاض، يمكن تفصيله ليناسب التعريف الإسرائيلي، ويمكن تعطيله تماماً، أو إلغاؤه إذا اصطدم مع مشيئة هذه العصابة الإرهابية التي تحتل فلسطين، وتسبب الشرور للعالم، بما فيه الولايات المتحدة، ولولا احتلالها ونازيتها لما حدثت جريمة 11 سبتمبر.
مقاربة الأمر إلى الذهن تكاد تكون سوريالية، فالولايات المتحدة ومؤسساتها لا تضع أية قيود على حرية التعبير، وأن تنتقد صحيفة الرئيس الأميركي فهذا شأن عادي منذ عقود طويلة، وأن تسخر من أميركا وسياستها الداخلية أو الخارجية، فهذا لا يزيد على كونه ممارسة طبيعية، يحتملها دور الصحافة، ولا خطوط حُمراً في أي شأن أميركي، لكن هذه الدولة العظمى التي تحكم العالم وتديره سياسياً وثقافياً يهتزّ بيتها الأبيض، وترتعد مؤسساتها الإعلامية العريقة إذا تعكّر مزاج كيان عنصري خارج على القانون الدولي والأخلاق الإنسانية، مثل إسرائيل.
أوكتافيا نصر أميركية من أصل لبناني، وكانت تعمل كبيرة لمحرري الشرق الأوسط في شبكة «سي إن إن» الأميركية، قبل أن تكتب سطراً واحداً على صفحتها الشخصية في موقع «تويتر» تعرب فيه عن حزنها على رحيل المرجع الديني البارز السيد محمد حسين فضل الله. كلفها ذلك موقعها في الشبكة التي قررت الاستغناء عنها، رضوخاً لضغوط من منظمات نازية إسرائيلية طالبت بطردها والاعتذار. يحدث هذا في الولايات المتحدة التي امتدح رئيسها باراك أوباما قبل أيام بنيامين نتنياهو، ووصفه بأنه «رجل سلام» يستحق جائزة نوبل، ونسي أن يقول إن نتنياهو «ضد الاحتلال والقتل وحصار غزة». فأميركا وصلت في تبعيتها لإسرائيل إلى حد الكذب المبين. أقول يحدث ذلك في أميركا، وليس في أي دولة عربية أو أخرى من العالم الثالث، تعتبر حرية الرأي والتعبير ترفاً لا يليق بشعوبها. ما حدث مع أوكتافيا نصر سياق متصل في الرعب الأميركي من إسرائيل وأذرعها الشريرة، وكلنا يتذكر الإرهاب الفكري الذي تعرضت له كبيرة محرري البيت الأبيض هيلين توماس التي أُجبرت على ترك عملها، لأنها طالبت اليهود الذين يعيشون في فلسطين المحتلة، تحت ظل عصابة نتنياهو وليبرمان بالعودة إلى بلدانهم الأصلية التي جاؤوا منها قبل العام .1948
نسي البيت البيض مرة واحدة تاريخاً ممتداً صنعته هيلين توماس، وقال متحدث باسمه إن صحافية في التسعين «تستحق التوبيخ على هذا الكلام العدواني وغير المسؤول».
هذا أسوأ ما يحدث في حقبة أوباما. تتحول فيها الدولة الأميركية إلى نسخة ركيكة ويائسة من أنظمة العالم الثالث في قمع حرية التعبير، وتشيخ فيها مؤسساتها العملاقة من طراز «سي إن إن» بتعريض مهنيتها للتصدع، ومصداقيتها للشكوك. فالجميع يعلم كيف سيكون الأمر في ما لو كانت الصورة معكوسة، وانتقد أي صحافي في الشبكة العرب أو شتمهم!
أما الأسوأ، فهو هذا النوم الثقيل الذي يتنعم به العرب في ليلهم الطويل.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على إسمة