5 دقائق

ضريبة الفكر

سالم حميد

كنتُ أشجع المنتخب الهولندي بحماس وانفعال شديدين، كما لو كنت أشجع منتخب الإمارات، وشعرت بمرارة وحسرة كبيرتين للخسارة، ولكن صديقي الهولندي العجوز إسماعيل ابتسم، وقال «لقد لعبنا مباراة جيدة واستحق الإسبان الكأس»، قالها على مضض، لكنه قبل الهزيمة وقبل فوز الخصم، قبل بسهولة وبروح عالية شأنه شأن الكثيرين من أبناء بلده، فالهولنديون معروف عنهم قبولهم للآخر وعدم عصبيتهم لأفكار مسبقة حتى من الغرباء على أرضهم وبلدهم، فما بالك بأبناء جلدتهم، وحين يطرح عالم أو مفكر أو فنان أو حتى شخص عادي، رأياً أو قضية، فإنهم يتقبلونه ويناقشونه ولا يطلقون أحكاماً مسبقة ونهائية. حتى إن هذا البلد استقبل العديد من المفكرين العرب الهاربين من ظلم مجتمعاتهم ضيقة الأفق، التي لا تقبل الرأي الآخر مهما كان، ولا تقبل أن تناقش وتجادل، من هؤلاء الكتاب الذين استظلوا بالأراضي المنخفضة الراحل نصر حامد أبوزيد الذي وافته المنية في بداية هذا الشهر.

أبوزيد لجأ إلى هولندا بعد أن كُفر وطُلق من زوجته، ليهرب طواعية من مصر بسبب أفكاره التي بقي عليها دون تراجع، ويجسد بحق ما يعانيه المثقف العربي في بلاده، فالويل لمن يجرؤ على قول ما لا يتوافق مع أهواء الجماعة ومع السياق العام، الويل لمن يريد أن يحلل ويبحث عن الحقيقة! ضاقت عليه أم الدنيا فانسحب إلى بلاد الطواحين، بعد أن طحنه الواقع المتخلف في مجتمعات ترفض التطور والنمو وتريد البقاء في ظلام الجهل!

المفارقة في قصة أبوزيد أن الكثيرين حكموا عليه مسبقاً دون أن يقربوا من أفكاره، أو أن يقرأوا ما في دفتي كتبه، بل إنهم رددوا كالببغاوات أحكاماً أصدرها غيرهم في تقليد أعمى! أصدروا أحكامهم المسبقة وجلدوا رجل الفكر والتنوير، وأصبح اسمه مرادفاً للقب «مرتد»! مع العلم بأن الكاتب كان يريد نهضة المجتمع الإسلامي من خلال الفكر المتنور، من خلال إعمال العقل وإشغال الفكر. صاحب كتاب «التفكير في زمن التكفير»، كُفر وطُرد وهام على وجهه لسنوات، لكنه لم ينسَ وطنه وظل يحن له، على الرغم من محاولة إقصائه وتهميشه من قبل أصحاب العقول المظلمة، إلا أنه ظل مثابراً على أمل أن يغير في واقع لا يقبل التغيير. وعلى الرغم من هجرته إلى هولندا، فإنه لم يخرج من عباءته العربية والإسلامية، بل بقي متمسكاً بجذوره وتاريخه، لم يفعل كما فعل غيره من الذين اضطهدوا في بلادهم، فهجروا إلى دول الغرب ثم تهجموا على بلادهم ومجتمعاتهم وواقعهم، وغدوا وجبات أساسية في وسائل الإعلام الغربية، إنما حافظ على نقاوة فكره وتوجهه ووفائه لمجتمعه، فهو سعى إلى إضاءة شمعة في ظلام استبداد مجتمعي يقمع الفكر، وتوفي هذا المفكر الذي حارب الغوغاء وظلام العقل، لكن فكره وكتاباته ستبقى ولن تذهب هدراً.

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر