كل جمعة
دروس من المونديال
أكتب للجمعة الثالثة من وحي «جابولاني»، ولا حديث يعلو في هذه الأيام على حركتها السريعة والمثيرة بين أقدام الدول في مونديال جنوب إفريقيا، وأخص نفسي ببعض بهجة على تحقق معظم أمنياتي في كأس العالم، بهزيمة إنجلترا المذلّة أمام الألمان الذين أشجعهم تاريخياً، وأفضلهم على سواهم، وكذلك، خروج إيطاليا المهين، بمنتخبها السلبي في ما تستحقه من نهاية، وبعدها الولايات المتحدة التي أقصاها فقراء غانا من المونديال، فأراحونا من تذكر نكسة الجزائر.
كرة القدم، ليست كلها رياضة، ففيها كثير من السياسة والتاريخ، والثقافة والفنون. فمثلاً، كانت البهجة العربية غامرة بهزيمة الإنجليز والأميركيين، ربما ليس حبّاً بألمانيا وغانا، وإنما لأن هذا الأمر يخصّ المشاعر والانفعالات والتوجهات غير المفهومة للمزاج الشعبي، وهذه أمور لا يمكن عقلنتها، أو وضعها في سياق منطقي للتحليل.
ولأنها ليست رياضة وحسب، فإنّ في لقاءات الأمم دروساً حقيقية، وما يحدث في الملاعب تعبير بليغ أحياناً عن طبائع البشر والثقافات، ويصلح ليكون عِبْرة لمن أراد أن يستمتع أولاده بكرة القدم في هذا الصيف، ويتعلموا دروسا أخرى، لا تقلّ أهمية وذكاءً عن المتعة.
درس الاستعلاء الذي يؤدي إلى خيبة مؤكدة كان ماثلاً بشدة منذ تحرك طائرة المنتخب الفرنسي إلى جنوب إفريقيا، فقد جاء مدربه ريمون دومينيك إلى المونديال، وكان يظنّ نفسه في رحلة للراحة والاستجمام، ورفض الاستماع للانتقادات حول تشكيلة فريقه، وصرح بأن عبور الدور الأول أمر بالغ السهولة، فوقع في شرّ عجرفته بهزائم متتالية، وفضائح داخل منتخبه، أفضت به إلى إخفاق تلو إخفاق، وإلى تحقيق أمام برلمان بلاده.
وهناك أيضاً درس الغرور المقرون بالعنصرية الذي استحق عليه نجم البرتغال كريستيانو رونالدو لقب «اللاعب الفاشل» دون منازع. وقد ودّع المونديال بهزيمة وعجز عن تهديد أي مرمى، وبصق على ملايين المشاهدين أمام كاميرا تلفزيونية. ولا ينسى كثيرون أن هذا اللاعب الثمين جداً أعرب عن تذمره من احتكاك لاعبي ساحل العاج السود به، وتعامل باشمئزاز وعنصرية مريضة مع اقتراب أي لاعب منه أثناء المباراة.
قُل لابنك، وهو يشاهد معك أي مباراة مقبلة لريال مدريد إن الغرور يقتل كل نجاح وتفوق. فقد سأل صحافي رونالدو عن أفضل لاعب في العالم، فقال: أنا، ثم أنا، ثم أنا. وها هو لا ينافسه أحد على لقب أسوأ لاعب في العالم أداءً وأخلاقاً.
ويعلمك حضور إيطاليا في المونديال أن الاستخفاف بالآخرين، والتقليل من شأنهم طريق مفتوح إلى الهزيمة من دون شكّ، فبطلة العالم أربع مرات، كان آخرها قبل أربع سنوات، لعبت في مجموعة سهلة جداً، لكنها عجزت عن تحقيق أي فوز، وخرجت من الدور الأول بهوان ما بعده هوان في مباراتها الأخيرة مع سلوفاكيا التي وصلت إلى كأس العالم للمرة الأولى في تاريخها!
ولا يعدم المونديال دروساً أخرى عن عزيمة الأمم، والحرص على ثقافتها وقيمها ورقيها الحضاري، كما لعب اليابانيون، وحققوا انتصارات على دول متمرسة في كرة القدم، مثل الكاميرون والدنمارك.
لكن الدرس الأشد قسوة هو الغياب، أو الحضور الذي يشبه الغياب، وفي ذلك لا أحد ينافس العرب.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .