كل جمعة

كأن دبي أفسدتني

باسل رفايعة

المكان عندي وطن، وقد تخلصت في مطالع الأربعين من أوهام الجغرافية الشرسة، بطفولتها، وغرورها، ونشيدها الصباحي، مثلما تخلصت من الحُبّ من طرف واحد، وأصبحت أحبّ الأمكنة أو أكرهها بقدر ما تتعامل بود واحترام مع كبريائي وإنسانيتي، ولا أبالغ في ذلك كثيراً، فأنا عربي في نهاية الأمر، وأعرف أن أمتي قليلاً ما تأبه لكرامة الإنسان، والشواهد أكبر من طاقة أي إحصاء.

تعرضت قبل أيام لمعاملة سيئة جداً في مطار عربي. انتقاني رجل أمن مع مجموعة من العرب فقط، وجرى تفتيشي شخصياً، وحقيبتي اليدوية على نحو مهين. أفرغ المفتش محتوياتها بطريقة استفزازية، وأمعن في التدقيق، بعد احتجاجي على تلويث دواء المعدة الذي كنت أحمله، وقال لي ما معناه إن «عليك إذا كنت رجلاً أن تحتج أمام مسؤولي الأعلى» الذي قادني إليه، فأكدت له أنني «أحتج على أسلوب التفتيش» وليس على العملية بحد ذاتها، فلم يرق له الأمر، وصرفني بازدراء.

للإنصاف لقد تعرضت لأسوأ من ذلك كثيراً في مطارات عربية، خصوصاً على الحدود العراقية - الأردنية عام ،1998 في أيام صدام حسين، وكنت أصغر سناً، ومع ذلك لا مجال لأي شجاعة في ذلك الوقت.

المتغير الوحيد خلال هذه الأعوام أنني أعيش في دبي منذ أكثر من خمس سنين، ويبدو أن الحياة فيها أفسدتني تماماً، حتى صرت لا أحتمل ما كنت أحتمله سابقاً، أو على الأقل أكتم غيظي إن عجزت عن أي نوع من أنواع المواجهة.

فأنت تعود من إجازتك أو عملك إلى مطار دبي، أو تغادره، تصطف مع القادمين للمرور من نقطة الجوازات، حيث يستقبلك رجال محترمون أولاً، ومحترفون ثانياً، ينجزون عبورك في ثوانٍ معدودة، بتحية وابتسامة غير مألوفتين عربياً. وإذا خضعت لتفتيش خاص فإنه باستخدام تقنيات عالية، وبأسلوب بالغ التهذيب، وهنا يستحيل أن يسألك أي موظف عن الوثيقة الناقصة، أي الورقة النقدية، كما ينتشر هذا المرض في كثير من الحدود والمنافذ في بلاد العُرْب.. أوطاني!

أثناء اصطفافك في مطار دبي ينتشر مواطنون ومواطنات، وظيفتهم الأساسية مساعدة كبار السن، وتسهيل معاملتهم، لا يمكن أن تجد امرأة حاملاً، أو عجوزاً، أو أخرى تحمل طفلاً إلا ويسارع رجل إلى تحيتها، واصطحابها إلى موظف خاص لإنجاز عبورها، وهذا لا يحدث سوى في دبي، على حدّ علمي.

في هذا السياق، أنا رجل يخاف الطيران ويكرهه، ولكنني منذ ما يزيد على خمس سنين أتمتع بسفر استثنائي مع «طيران الإمارات». لا أشعر برهاب الإقلاع ولا الهبوط، ولا أسأم الرحلات، وحين أسافر مع شركة أخرى أجد أنني فرّطت في راحتي ومتعتي. هذه ليست دعاية لدبي وطيرانها، فهي لا تحتاج ذلك مني.

نعم، كأن دبي أفسدتني أكثر من ذلك: طوال السنوات الماضية لم يوقفني شرطي مرور، ولو مرة واحدة، ولم يطلب مني رجل أمن يتخفى بلباس مدني هويتي، ويسألني باحتقار وترويع: ماذا تفعل هنا؟ وكوافد يراجع كثيراً إدارة الجنسية والإقامة، وهيئة كهرباء ومياه دبي، والمؤسسات المعنية بالخدمات لم أصادف موظفاً واحداً تعامل معي بسوء، أو فظاظة.

baselraf@gmail.com

 

تويتر