‏أبواب‏

‏ المأزق الثقافي وكنيس الخراب‏

يوسف ضمرة

‏في الصور المقبلة، ستظهر في الكادر ثلاثة مواقع دينية مقدسة، هي المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وكنيس الخراب. وهذا يعني أن لليهود تاريخاً مقدساً في القدس، وبالتالي في فلسطين.

الغريب في الأمر، هو أن يلجأ الكيان الصهيوني إلى هذا الكنيس غير المعروف، ولكن الأكثر غرابة، هو رد الفعل العربي على هذه الفبركة.

وبصرف النظر عن رد الفعل العربي الذي يجب ألا يكون مفاجئا لنا، فإننا معنيون هنا بالدلالات الثقافية التي يحملها هذا الكنيس.

فبعد فشل العدو الصهيوني في العثور على أي دليل عبري في فلسطين، وبعد أن خرقوا الأرض بآلاتهم بحثاً عن الهيكل الوهمي، وبعد أن أثبت العديد من علماء التاريخ والآثار أن أريحا لم تتعرض لأي حريق أو تهديم في أسوارها، كما تزعم التوراة التي بين أيدينا، وبعد أن تنحت هذه التوراة جانباً كمصدر تاريخي لكثير من الدراسات والأبحاث التاريخية القديمة، وجد العدو نفسه في مأزق وجودي، على الرغم من كل ما يتمتع به من قوة عسكرية ودعم غربي.

مشكلة العدو في هذه المنطقة، تكمن في كونه صار جاراً لشعوب وأقوام تمتلك تواريخ مقدسة، لها من الآثار ما يؤكدها وما يدعمها، فمن السومريين والبابليين إلى الفراعنة والعمونيين والمؤابيين والكنعانيين والآراميين. وقد كشفت الحفريات العلمية عن كتابات تؤكد هذه الحضارات ذات التواريخ المقدسة، وعليه أصبح الكيان الصهيوني مثار تساؤل علمي وثقافي، يتعلق بالتاريخ والثقافة، أي بالهوية.

لقد وجد اليهود أنفسهم في بلاد ما بين النهرين ذات يوم، وقد اكتشفوا أنهم مجردون من تاريخ مقدس كالأقوام التي عاشوا بينها، فاستنسخوا تواريخ هذه الأقوام، وقاموا بكتابة تاريخ وهمي مترع بالقداسة، وهو الذي ساهم في تجميعهم في فلسطين ذات يوم، تماماً كما استخدم اليهود الحجة ذاتها في الهجرة من مصر، بناءً على وعد من إله يسمى «يهوه».

المشكلة إذاً، هي أن الكيان الصهيوني يعاني مأزقاً ثقافياً يتعلق بالهوية، أي بالوجود. وعليه صار لزاماً على هذا الكيان، وكما حدث من قبل كما أشرنا، أن يخترع تاريخاً مقدساً جديداً، لم يكن له أي قيمة ثقافية من قبل، وقد كان من الطبيعي أن يركز الكيان جهوده، طوال العقود التي مرت على إنشائه، على الأساطير المعروفة، كأسطورة مسعدة، أو «مسّادة» كما يسميها اليهود، إضافة إلى آثار الهيكل الوهمي، ولكن النتائج كلها لم تكن مقنعة، ليس لأن تلك الأساطير وهمية في الأصل، بل لأن إعادة إنتاج أسطورة قديمة، يعد أكثر صعوبة من اختلاق أسطورة غير شائعة.

والأمر هنا ليس متعلقاً بصراع الحضارات كما قد يبدو، ولكنه متعلق باختلاق حضارة من اللاشيء، وإحلالها محل حضارة قائمة وحقيقية، أي أن الكيان الصهيوني يبدو كمن يحاول طمس حقيقة اجتماعية، وتسويق وهم على أنه هو الحقيقة البديلة. وذلك كله في معرض البحث عن الذات، أمام مأزق غياب الهوية التي هي المدخل الحقيقي لمعرفة الذات وتوكيدها. فمعرفة الذات تقوم على اعتراف الآخر، لا بما تحمله أنت عن ذاتك من تصورات وأفكار ومفاهيم وتواريخ، وتقدمه إلى الآخرين. وعليه، فإن اختراعاً مثل كنيس الخراب، لن ينفخ الروح في تاريخ مزور، ولن يشكل ملمحاً ثقافياً يستطيع الكيان الغريب اعتماده طويلاً كملمح من ملامح الهوية المقدسة.

 

‏damra1953@yahoo.com

تويتر