الفلفل العجيب

سالم حميد

في بداية زيارتي الأخيرة إلى الهند، تناولت وجبة غداء في أحد مطاعم مومباي، لم أشعر بعدها إلا وكأن عدداً من السكاكين الحادة تقطع معدتي بسبب حرارة الفلفل، لكن نائب القنصل الإماراتي محمد بن أرحمه المزروعي، أظنه قد انتبه لمعاناتي، كان يرسل إليّ يومياً أطباقاً إماراتية مطبوخة منزلياً، ومن محاسن المصادفات بعد العودة للوطن قراءة ما جاء في جريدة «الإمارات اليوم» الأربعاء الماضي، فلم يثر استغرابي قيام تجار ذهب هنود بوضع كميات قليلة من الفلفل الأخضر والليمون ورسوماً لحيوانات بين معروضاتهم من المصوغات والمجوهرات، أملاً في درء النحس، وجلب الحظ والزبائن، ومواجهة حالة الركود في أسواق الذهب المحلية. وذكر أحد تجار الذهب أنها معتقدات لا يعرف أسبابها أو أصولها الحقيقية في بلاده! إذن، دعوني أحاول.

قد يستغرب بعض القراء إذا عرفوا أن السبب الذي دفع البرتغاليين منذ بدايات القرن الخامس عشر إلى تسيير عدد كبير من الحملات الاستكشافية البحرية، هو إيجاد طرق بديلة إلى الهند لجلب الفلفل والقرفة والزنجبيل وبقية أنواع البهارات الهندية إلى البرتغال، حيث إن القارة الأوروبية كانت تعاني احتكار مدينة البندقية الإيطالية لتجارة الفلفل وبقية أنواع البهارات الهندية التي كان يبيعها التجار العرب لتجار البندقية والتي حملت حينها لقب «الجمهورية الجليلة»، ولهذا السبب نجد الأطباق الأوروبية باردة جداً حتى اليوم، ووحدهم أغنياء أوروبا وأبناء الطبقة الارستقراطية كانوا قادرين على شراء الفلفل الهندي الذي كان سعره يعادل سعر الذهب في القرون الوسطى! وكان تفوق البندقية في مجال تجارة التوابل مع العرب قد أثار حنق بقية الدول الأوروبية وعلى رأسها البرتغال، الأمر الذي شجعهم على اكتشاف الهند، خصوصا بعد أن سمعوا عن الروايات التي ذكرها الرحالة المغربي ابن بطوطة في بلدان عدة في قارة آسيا، وكذلك مذكرات الرحالة الأوروبيين الذين رووا كيف كانت الأسواق العربية عامرة بالبهارات الهندية وعلى رأسها الفلفل الأخضر والأحمر، فمضى البرتغاليون يجمعون المعلومات حول المحيط الهندي لاكتشافه من أجل ذلك الفلفل العجيب، والتحقق بإرسال الجواسيس لمعرفة الطرق التي يصل بها الفلفل وبقية التوابل إلى البحر المتوسط في عملية استغرقت نحو 70 عاماً من الجاسوسية حتى عام 1487م للعثور على الطريق نحو الهند، وكان الأوروبيون يدفعون الذهب مقابل الحصول على الفلفل العجيب، حتى استطاع البرتغاليون بقيادة الملاح الشهير فاسكو ديجاما الوصول، بالفعل، إلى سواحل الملبار في الهند عام 1498م، ثم وافق الملباريون الهنود على مقايضة البرتغاليين الفلفل الهندي، مقابل حصولهم على الذهب وبقية أنواع المعادن النفيسة.

إذن، التصرف الأخير لتجار الذهب الهنود بوضع الفلفل الأخضر بين معروضاتهم من المصوغات والمجوهرات، يعكس خلفية تاريخية عن مدى تقدير الفلفل، فلولا هذا الفلفل العجيب لما عرفوا تجارة الذهب من الأساس! هذا هو تحليلي للظاهرة الأخيرة، والله أعلم.
تويتر