مفهوم العدل الأسري

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

لا يختلف الناس في أن العدل كله فضيلة، والجور رذيلة، وأنه فريضة وليس نافلة، إلا أن بعض الناس لا يدرك مفهوم العدل في الأسرة، وبالتحديد بين الزوجات، فيفهمون منه أنه العطاء المتساوي، وإن اختلفت المقتضيات، وأنه مطلوب في ما يلزم وما لا يلزم، بينما هو في الحقيقة «إعطاء كل حقه من غير وكس ولا شطط»، فإن نقص فهو جور، وإن زاد في العطاء فهو فضل، أما ذلك المفهوم الشائع فيجعله أقرب إلى الجور منه إلى العدل؛ إذ مقتضيات كل واحدة من الزوجات تختلف عن الأخرى، فذات الولد ليست كالمنفردة بنفسها، وذات الولدين ليست كذات الولد الواحد، والاجتماعية ليست كالانعزالية، والمكفية بولدها أو غيره ليست كالوحيدة، فلكل حالٌ يختلف عن الأخرى، فلو قيل إن على الزوج أن يعطي هذه كتلك لكان قد ظلم ذات الحاجات الكثيرة، إذ يجعل ذات الحاجات القليلة أكثر سعة من غيرها، وهذا يتنافى مع العدل، وكذا يقال في ما لا يجب على المرء بذله من الكماليات ونحوها، فليس من الواجب على الزوج أن يبذل مثل ما بذل للأخرى بالقسطاس المستقيم، وإن كان هذا أفضل إن تيسر له، إلا أن جعله من مفردات العدل الذي قد تفهمه بعض النساء غلط لا ريب؛ لأن معناه أنه يأثم بتركه إن لم يفعله؛ لكونه فريضة لقول الله جل شأنه{إن الله يأمر بالعدل والإحسان} لذلك أرشد إلى عدم تعدد الزوجات عند عدم القدرة على العدل، خشية أن يأثم بتركه، فقال سبحانه{فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} وتأثيمه إنما يكون في ترك ما يجب عليه، ولا يجب عليه غير ما تمس الحاجة إليه، فما زاد فهو من الفضل والإحسان و{ما على المحسنين من سبيل}. نعم هو خيرٌ وأفضل للمرء إن استطاع، إلا أننا لا نكلفه ما لا يستطيعه أو ما لم يكلفه به الشرع، فقد عذر الله تعالى المرء في ما لا يطيقه من بعض صور العطاء المعنوي أو الشخصي بقوله سبحانه{ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُل الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتقُوا فَإِن اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}. فلم يحرّم الله تعالى عليه التعدد مع تيئيسه منه حتى مع حرصه عليه، فدل على أن العدل المطلوب هو الواجب بذله من نفقات وحاجيات، بحيث لو تركها لكانت المرأة عالة على الناس، وهو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول «اللهم هذا قسمي في ما أملك، فلا تلمني في ما تملك ولا أملك». قال أبوداود: يعني القلب، وهذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم قالوا: لأن التسوية في هذا كله تشق، فلو وجب لم يمكنه القيام به إلا بحرج، فسقط وجوبه. أقول هذا لما رأيت من العنت الذي يلحق بالأسر جراء ما يكون من بعض الميل المقصود أو غير المقصود، فيظن به الظنون، وتنقلب حياة الأسر إلى جحيم مستعرة، ويركب كل منهم الشطط الذي أفرزه عدم معرفة الحكم الشرعي الواجب اتباعه، وهي ظاهرة تتنامى شيئاً فشيئاً فتؤرق الأسر، فكان لابد من البيان لئلا يتمادى الإثم والعدوان.. والله المستعان.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

تويتر