من يتذكر ساعي البريد !

إبراهيم جابر إبراهيم

من يتذكر مغلفات البريد التي كانت أطرافها ملونة بمقاطع صغيرة مائلة من الأزرق والأحمر، والغطاء المثلث الشكل الذي نبلله بطرف اللسان ثم نلصقه ونضغط عليه بقبضة اليد!

زمان؛ حين كانت الهيبة للقلم والورق المُسطّر، كان الناس يجلسون ساعات طويلة يدبّجون الرسائل، ويملأونها بذوب عواطفهم وأشواقهم، وكانت الرسائل المكتوبة غالباً بالحبر الأزرق (بسبب التشاؤم الشعبي المتوارث من اللون الأحمر) تحتاج على الأقل لـ(طبق ورق) ينزع من دفتر تلميذ من العائلة!

وتُطوى الرسالة جيداً ثم تُدسّ بين أوراقها صورة مولود جديدٍ لم يَرَه المسافر، أو صورة بالمريول لطفلته التي التحقت بالمدرسة في أعوام سفره!

وينهمك فتى أو فتاة «بتخطيط» العنوان على المغلف، ثم يبلل أكبر الجالسين من ريقه طابعاً أو طابعين، ويدقهما دقا شديداً بباطن كفه على المغلف، ويضيف بخطه متذاكياً عبارة على المغلف «مع الشكر لساعي البريد»!

الرسائل حين كان لها معنى حميم وعائلي، ومناسبة لأن تلتمّ العائلة كلها، حول الولد الذي وقع عليه الاختيار ليقرأ بصوت متهدج رسالة الأخ المغترب «غالباً في الخليج»، والذي تقاطعه الأم اكثر من مرة ليعيد مقطعاً لم تسمعه جيداً أو أحبّته ورغبت أن تسمعه ثانيةً!

كانت الرسالة تنقسم «بعد البسملة والصلاة على النبي» الى مقدمة عامة تتحدث عن الشوق والتحيات والخير الذي يعيش فيه المرسل قبل أن يستدرك متحسراً «ولا ينقصنا إلا مشاهدتكم والتحدث اليكم»! ثم تنتقل الى أسئلة الاطمئنان: عن صحة الوالد، مع رجاء أن تكون الإجابة صادقة، وعن الأخت الوسطى، هل أنجبت وصارت أمّاً حقاً؟ (وهنا تدمع عينا الأخت التي بالمصادفة كانت في زيارة لأهلها في ذلك النهار)، وعن أخبار الجيران؛ من دون أن يجرؤ بالسؤال مباشرة عن ابنتهم.

ولا ينسى الأخ المغترب أن يسأل باهتمام عن «السكري» عند الأم وعن «حَبّ الشباب» في وجه الأخت، وعن الجيران والأقارب والأعمام والخالات، ثم يطلب بخجل إبلاغ ابن عمه «فتحي» انه لم يستطع بعد أن يدبر له فرصة عمل مناسبة، طالباً إليه بحكمة مفتعلة أن يؤمن بالنصيب والمكتوب والقدر وقسمته في الحياة.. الخ.

وتنتقل الرسالة بعد ذلك الى جزء حيوي آخر، يخاطب فيه الأم بأنه سيفكر باقتراحها بخصوص ابنة خالته، وانه سيحاول الحضور هذا الصيف ليراها.

وفي ذيل الرسالة، دائماً ما تكون كلمة «ملحوظة»، وبعدها نقطتان فوق بعضهما وتحتها خطّان، وأحياناً يكون الابن قد تعمّد كتابتها باللون الأحمر لإشعار الأهل بأهميتها، على الرغم من أنها غالباً ما تتعلق بحاجته اللحوحة لكيلو جبنة بيضاء، او ملوخية ناشفة، أو أن تُرسَلَ له صورة أخته مع طفلها الجديد «وهنا تضطر الأخت إلى أن تخرج بابنها إلى الاستوديو وهي في مرحلة النفاس، ويصاب بلفحة هواء، فيشتمها زوجها هي وكل أهلها، وتحديداً «أخوها اللي قاعد هناك رجليه بمي باردة، وبيتأمّر علينا، ومش شايفين منّو شي»، ويطردها الى بيت أهلها.. الخ.. الخ».

كانت للرسائل طقوس جميلة، وكانت تستغرق أسبوعين لتصل، فيبدأ المرسل بعدها يعدّ الأيام ليتلقى الرد؛ على اعتبار ان المتلقي كتب رده وأرسله للبريد في اليوم ذاته.

وغالباً ما كان الأهل يمرون يومياً على الدكان او معرض الغسالات، ليسألوا إن كانت قد وصلتهم أي رسالة، البعض الأكثر رقيّاً او أعلى درجة اجتماعية، كان عنوانه على الصيدلية، اما الطبقة المحظوظة فكانت لها صناديق بريد، تلوّح بمفاتيحها الصغيرة امام الناس.

وفي الأعياد كانت تزدهر مبيعات«كروت المعايدة»، تلك البطاقات الكرتونية التي تحمل صوراً مختلفة، منها اللامع والفسفوري والتي فيها موسيقى او تصدر رائحة وردية عند حكّها، «أتذكر ان والدي ارسل لي قبل 24 عاماً بطاقة عليها صورة محمود ياسين واقفاً ببدلة وربطة عنق في غابة من الأشجار».الآن اختفت تلك الأيام والنهارات المليئة بالحيوية، تلك الرسائل التي تكتظ مغلفاتها بالعواطف النبيلة وحرارة القبلات من «المخلص لكم»!لا أحد يشعر الآن بمتعة تلقي رسالة من قريب غائب لأن فكرة الغياب نفسها اندثرت، وأي شخص مهما كان بعيداً فهو بمتناول «الموبايل»، وأي شخص تفتقده سرعان ما تجده قابعاً في «صندوق الرسائل الواردة»، أو جالساً ينتظرك في حجرة «الايميل»!

nowaar@hotmail.com

تويتر