عن الحرب..

حازم سليمان

سأذكّركم بالحرب.. ليس لشيء، فقط لأني راهنت نفسي خلال مجازر غزة ومجازر العراق أننا سرعان ما سننسى ونلتهي بأيامنا، ونتجاهل خيط الدم الذي لم يجف، ولأننا نعيش دائماً بذاكرة مثقوبة.

سأذكّركم بتلك «المرأة الوحيدة على مشارف فصل بارد»، تصنع كنزة صوف بجناحين لرجل فقد ذراعه الأولى في حرب خاسرة، والثانية في حرب كانت تحتاج إلى ألف ضحية في ثياب النوم لتصير رابحة.

امرأة تنظر بين الحين والآخر إلى دخان المعارك، وإلى صورة مائلة بخط أسود لرجل باهت مثل ضحكة قديمة. وحبل غسيل فارغ، وأربعة أسرة لأولاد أشقياء.. مهلاً.. كانوا أشقياء.. قبل أن تقطفهم الحرب الواحد تلو الآخر كورود برية صغيرة.

أين ذهب ذلك الذي قال: سأشتري كيلو برتقال وأنا عائد.. تقول المرأة لنفسها:

وأين الأطفال؟.. تصرخ المرأة وتصرخ في الفراغ يا أولاد.. يا أشقياء.. وفي الليل، تتكور المرأة مثل «كمشة» حزن، وتبكي صغاراً رحلوا قبل أن يتعلموا نطق أسمائهم.. قبل أن يحفظوها. الأطفال الأشقياء تخلصوا منا باكراً، تحرروا من عارنا قبل أن يألفوه، ومن حليب الصباح، وغسل الايدي بعد الطعام، ومن ضيق الحال، والحالة.

أي نعيم سيتسع لهم..؟
أي جحيم سيتسع لنا..؟

قال السائل لمن لا يجيب.. أما كان في وسع الرحمة أن تتسع قليلاً، أن تضلل قذيفة الليل، أما كان للعتمة ان تستغبي ذكاء الصاروخ، أما كان للزمن أن يمهلهم القليل من الوقت..

القاتل على عجلة من أمره.. والقتيل كذلك..

قالت الأم لصورة طفلتها.. لو كنت أعرف لما أخرجتك من رحمي، لحملت بك عشر سنين، لأبقيتك داخلي إلى أن تفنى كل جيوش الأرض، لوكنت أعلم، لأنجبتك سراً كالخطيئة، وتركتك في العتمة، في المكان الذي لا يصل إليه الموت العاجل، لوكنت أعلم لما حلمت بحب، وزوج، وعائلة، لوكنت أعلم أن حياتك قصيرة لهذه الدرجة، لما تركتك تنام باكراً، قبرك صغير علي، كافٍ لأفراحي المقبلة.

الأطفال الأشقياء رحلوا بسرعة، لم يتركوا غير بقايا صور، وأشلاء حقائب مدرسية، لن يصير أولادنا عشاقاً، لن يتعلموا التدخين، لن يعلقوا على الجدران صور المغنين، وأسفل الوسائد صور نساء، لن يتصوروا لجوازات السفر، لن ينضموا إلى الأحزاب، لن يبحثوا عن وظائف، لن ترهقهم القروض، لن يكبروا ليموتوا، لن يتعلموا جدول الضرب، والتاريخ، أولادنا قفزوا من فوق سور المدرسة، فوق سور الحياة، ولن يعودوا.

.....

«امرأة وحيدة على مشارف فصل بارد» تصنع كنزة صوف بجناحين، ترتديها وتطير من دون رجعة.

hazemm75@hotmail.com

تويتر