كيس مخلل

حازم سليمان

على الرغم من انتمائي إلى أكثر السلالات العربية تفاؤلا، وهي بالمناسبة سلالة شبه منقرضة، يعيش أفرادها حاليا في أماكن متفرقة بين الربع الخالي وبادية الشام وصحراء المغرب، من سماتها انحناء في الظهر، انكسار في النظرة، صمت، شرود، وابتسامة غامضة تشبه التكشيرة.

وعلى الرغم أيضا من أنني أهجس بالفكر القومي الذي حُشر في رأسي بالطريقة نفسها التي كانت جداتنا يحشين فيها الوسائد بالصوف والقش، وعلى الرغم من أنني من أولئك الذين انطلت عليهم حيلة تعريب الديمقراطية بما يتناسب مع العادات والتقاليد، ناسيا أن الديمقراطية لا يمكن تعريبها أو فرنستها أو «زأررتها» نسبة إلى زائير.

وعلى الرغم من حماستي منقطعة النظير لإنجازات العرب في الخمسين سنة الأخيرة، وتأييدي الكامل لرغبتهم الصادقة في تحرير فلسطين، قبل أن يُحتل العراق، وانصياعي إلى السلام الشامل على أسس الشرعية الدولية، إن كانت لها شرعية، وتشجيعي للحضورالعربي المكثف في موسوعة غينس كأصحاب أكبر «جاط» تبولة، وأكبر سيخ كباب حلبي، وأكبر قدر مكبوس، وأضخم صحن حُمّص، وقراري الذي لا رجعة فيه بسحب كل ودائعي وأموالي من بنوك سويسرا لرفضها بناء المآذن.

على الرغم من كل ما سبق وجدت نفسي عاجزا عن الخروج بتعريف قصير لحال العرب، ولن أخفي عليكم أن محاولاتي في الوصول إلى تعريف يرضيني احتاج مني إلى جهد أيام كثيرة، قضيتها وأنا أفكر وأعصر بقايا ما يُعصر في جمجمتي، حتى إنني لم أترك وضعية مساعدة، كالمشي البطيء والسريع، تدخين السجائر والسيجار والغليون والنرجيلة مرفقة بأنواع العصائر العادية وسيئة الذكر، فكرت وأنا مُتخم وأنا جائع، على اعتبار أن الجوع من الشروط الأساسية للإبداع في العالم العربي، فكرت وأنا في المصعد، وفي السينما، وجربت كل الوضعيات المألوفة وغير المألوفة ولم أخرج إلا بتعريف واحد أثار إعجابي.. كنت وقتها أقضم لقمتي الأولى من سندويتش فلافل ساخنة، قلت لنفسي الأمارة بالسوء «العرب.. كيس مخلل»، وصرخت بعدها: الله يا حازم ما أذكاك!

نعم إنه كيس المخلل الصغير الذي يعطيك إياه بائع الفلافل، وهو يرمقك بنظرات متعالية، وغالبا ما تجده غير صالح للأكل، على الرغم من ألوانه الجميلة بين الاحمر «الشمندر»، والأبيض «اللفت»، البرتقالي «الجزر»، والأخضر «الخيار والفليفلة»، كيس صغير حافل بالأنواع والأشكال، إلا أن هذا التنوع في كيسنا لايعني أبدا الغنى بقدر ما يعني التناقض والتنافر والتناحر، رائحته الواخزة تشبه رائحة المهازل التي نرتكبها بين الساعة وأختها، ليونته المُنَفرة أقرب إلى قدرتنا المتناهية على أن نكون سخرية للعالم والتأكيد على أننا مازلنا محكومين بعقليات ضامرة، جعلتنا قبل أسابيع قليلة ننقسم ونتشاتم على لعبة كرة قدم، وحولناها إلى مباراة في القدرة على إهانة بعضنا بعضا، ووضعتنا على مدى الايام الماضية أمام أمر منفر ومثير للاشمئزاز، وتحديدا لهجة الشماتة التي كانت في كثير من الصحف العربية، وهي تتناول قضية قرض «دبي العالمية»، وكأنها حققت هدفا في مرمى وهمي، وكأن الاستمتاع بالحديث عن تعثر دبي، هو انتصار لكثير من الاقتصادات العربية الراكدة التي جعلت حياة ملايين العرب تشبه الحياة في كيس مخلل خانق بلا طعم ولا نكهة، وإننا بمجرد لمسه نكتشف أن ألوانه ليست أكثر من أصباغ سرعان ما تزول وتنطبع على الأصابع والملابس، مثل «وسخ» لا يزول مهما تنوعت المساحيق القاهرة للبقع.

أعود إلى كيس المخلل ومحل الفلافل الذي كنت أبتلع فيه قضمتي الثالثة، حين شعرت أن هذه المحال نماذج مصغرة لوطننا الكبير، جنسيات عربية مختلفة تجلس قرب بعضهم بعضا ينهشون تلك السندويتشات الساخنة، ويقرطون أقراص الفلافل المغموسة بالطحينة، بنظرات قاسية وسحنات متشنجة وأخلاق ضيقة واستعداد لخوض معركة بالأيدي أو الاسلحة البيضاء على بصلة، أو قطفة نعنع، أو فجلة، أو حبة زيتون.

......

نصيحة:

- حين تدخل محل فلافل لا تنظر في الوجوه مباشرة، اطلب السندويتش وأنت تنظر إلى السقف أو الارض.

- لا تتأفف كثيرا في حال تأخر الطلب.

- لا تمد يدك إلى فجلة جارك مهما كانت شهية، حتى ولو كان الذي يجلس أمامها بشوشا، لأن تلك الابتسامة قد تتحول إلى غضب عارم يصعب التكهن بنتائجه.

- خذ السندويتش وغادر المكان وأنت ممتن، أو اجلس بهدوء ولا تتأفف من لكزة مباغتة، أو بذرة زيتون انطلقت من فم أحدهم في وجهك لأنها بكل بساطة شكل من أشكال المزاح العربي الثقيل.

- إذا أعطاك البائع علبة لبن بدل الكولا لا تجادل، واقنع بما لديك.

- تخلص من كيس المخلل، وتذكر أن محتوياته ليست أكثر من خدعة ملونة تشبه تماما حال العرب.

 

hazemm75@hotmail.com

تويتر