كرة النار
بعد كل الحديث والمقالات والضجيج والغبار والثرثرة والتصريحات النارية التي أثيرت حول تداعيات اللقاء الكروي بين منتخبي دولتين عربيتين شقيقتين، هل يمكن الكتابة مجددا عن الموضوع الذي شغل الساسة والفنانين والاقتصاديين ومحبي لعبة كرة القدم وهواة دحرجة كرة النار بين بلدين عربيين، يستظلان بالعروبة، ويحلمان مثل بقية الدول العربية بالتنمية الشاملة.
هل هناك كلام تبقى بعد كل هدير الكلام الذي اجتاح الحارات والمدن والمناطق النائية والإذاعات والفضائيات وسيارات الأجرة والدكاكين والمدارس والشوارع والصحف والمجلات ومنتديات الإنترنت والمطارات أيضا. وأعتقد أنه لم يبقَ مكان لم يدهمه هذا الضجيج المدجج بالتعصب والوهم والكراهية.
نعم، هل ظلت مساحة صغيرة لكلمة في سياق آخر مختلف، عما يفيض من عتمة وشرر من تلك الكرة المتدحرجة التي امتد ملعبها وتوسّع، فلم يعد «المستطيل الأخضر» ميدانها، إذ صار الوطن العربي ملعبها، خصوصا أنها تدور وتنثر حممها هنا وهناك. وفي النهاية، ستخلف رمادا على رماد، وستزيد طبقات العتمة في ملعبها الكبير طبقة فوق طبقة، كما لو أنه ينقصنا، نحن العرب، ما يلفنا من عتمات منذ زمن بعيد.
وصار لنا أن نتساءل عن أحلامنا الصغيرة قبل الكبيرة، أحلامنا بنهار مبهج وهواء لا يتسبب في إصابة أحد منا بالربو، أحلامنا بعبور آمن للشارع من دون هلع، أحلامنا ببيت دافئ بالحب.
بعد كل ما جرى ويجري، من توابع وزوابع حول مباراة مصر والجزائر في كرة القدم، لاتزال تتسع دائرتها، كما لو أنها حجر سقط فجأة في بحيرة، هل هناك من يقرع الجرس، ويصغي إلى العقل بهدوء، ويرى المشهد من جديد وبعين جديدة. هل هناك من يقول بصوت واضح: كفى عبثا، وكفى تلاعبا بالعقول، وكفى استهتارا بقيم العروبة والإنسانية، وكفى زج الناس في حجيم التناحر، وكفى تعميما للحالة النشاز.
ولنا أن نتساءل: هل حررنا فلسطين وبقية الأراضي العربية المحتلة؟ هل اكتشفنا كوكبا أو كويكبا في المجرة؟ هل حققنا سبقا علميا واخترعنا كبسولة فضائية؟ هل قضينا على الفقر وأشبعناه شتما وقتلا؟ هل طرزنا أراضينا بالأشجار؟ هل صنعنا عود ثقاب أو كمبيوتر يعمل بالطاقة الشمسية؟ هل أنتجنا ثقافة نباهي بها الأمم؟ هل حققنا ديمقراطية لا مثيل لها في بلادنا؟ هل الحريات العامة مصانة في بلادنا؟ وميزان العدل لا يميل ذات اليمين وذات الشمال، حتى نبدو كما لو أننا في حفلة تنكرية، نتصايح ويتهم بعضنا بعضا ونوسع دائرة الهياج، وندحرج الكرة بين الناس يتقاذفونها ليلهوا عن حقوقهم وأوضاعهم وحياتهم والظلم الذي يتبختر بالزي الرسمي؟
هل دخلنا القرن الحادي والعشرين، حقا؟
أعتقد أن كرة النار التي تواصل تدحرجها، وتوابع المباراتين بين البلدين العربيين، تحتاج الى علماء واختصاصيين بعلم الاجتماع، ليدرسوا هذه الظاهرة المدمرة للأمل والعمل والمحبة. فدراسة هذه الظاهرة وتحليلها ومعرفة أسباب اشتعالها، كفيلة بتفادي تكرارها في مباريات أخرى وعلى أرض أخرى، كما أنها كفيلة بإعادة الكرة الى «المستطيل الاخضر».
وأخيرا، أراني أردد ما قاله الأديب التشيكي يوليوس فوتشيك في روايته «تحت أعواد المشانق»:
«أيها الناس، لقد أحببتكم، كونوا يقظين».