حديث ودّي مع غرباء

حازم سليمان

أيها الغرباء أيمكن أن تعيدوا لنا شيئاً مما كان؟

هي أشياء بسيطة وزعناها هنا وهناك بكل سذاجة، وكنا نعتقد أننا بذلك نصعد خطوة إلى الأعلى أو إلى الأمام، كنا نراهن على أن التخلص من جلدنا القديم الأسمر السميك سيجعلنا أفضل حالاً، فتركنا ما لا يمكن أن يتركه المرء إلا في حالات الخدر والدهشة العمياء.

فعلنا كل ما بوسعنا لنكون على هذه الشاكلة، أذكياء بلغات جديدة، نواعم بلمسة خجل مفتعلة، عُشاق بمشاعر مكبوته، منفتحين بقلوب مُغلقة، واضحين بردّات فعل مُبهمة، رشيقين بترهلات في العقل، أحياء بأعصاب ميتة، لطفاء بمخالب قلمة، مهارات مُعقدة، أفكار أكثر تطرفاً من أصحابها الحقيقيين. فعلنا كل شيء، لنبدو حضاريين، تقدميين، ولم نحسب حساب الحنين الذي يفتك الآن بأعصابنا.

أيها الغرباء حين بايعناكم على كل هذه الأوهام التي نزين بها أعمارنا، لم نكن نعلم أننا أعطيناكم أكثر مما نعتقد وأغلى، وأن كل «شخطة» بطاقة ائتمانية تترك ندبة سوداء على أيامنا،فهل لكم أن تعيدوا ولو القليل القليل من وصايانا التي تركناها مكتوبة بجميع اللغات على أوراق صفراء مهترئة، ولاحقاً على المواقع الإلكترونية؟ ما نريده ليس أكثر من فُتات ما كان لنا، أشياء يمكنها أن تعيد التوازن لخطواتنا العرجاء.

هي أشياء قليلة جداً، تكسر ظهورنا، كبرت على غفلة منا حتى صارت كتلة ثقيلة يصعب حملها أو التخلص منها. إنها مثلاً، بضعة بيوت كنا نتأفف منها وتركناها قديمة متعبة على حواف الدروب الرملية، إنها مثلاً الغرف الواطئة والأسرّة المعدنية ذات الصرير المزعج، القطط التي كانت تتكاثر وتضجر نومنا بأصواتها التي تشبه أنين طفل مريض، الحواري الضيقة المواربة المتراصة، البيت قرب البيت، الباب قرب الباب، الهم قرب الهم، الحزن قرب الحزن. والآن ومن دون قصد منا نسأل أنفسنا بخجل: يا ترى، أمازالت آثار وجوهنا الصغيرة عالقة على النوافذ؟ وأسماؤنا على الجدران، وتلك التي تزوجت بسرعة حُلم هل تذكرني وهي تطعم أولادها الخمسة، أمازالت بصماتنا على مقابض الأبواب وروائح أجسادنا على الأغطية الطاهرة من حرارة الشمس؟

اليوم وبعد أن مللنا برودة الرخام استباحنا الحنين إلى دفء التراب، بعد أن ضقنا بشرفاتنا التي لاتطل إلا على فسحات مفتعلة، مرصوفة ومخضرة بفعل فاعل، اشتقنا لنوافذ البحر وإطلالات الشوارع بناسها وباعتها وحماقات محدثي النعمة بسياراتهم المؤمنة ضد أخطار رجال الشرطة والمساءلات القانونية. اليوم بعد أن مللنا الماء المعلب، اشتاقت أيدينا لذلك الماء البعيد، عكراً كان أو صافياً، مالحاً أو عذباً، يكفي أنه الماء الذي غسل كل المغامرات القديمة، رائحة السجائر الأولى، الثياب المبقعة بالزيت والوحل، ذلك الماء الذي كان يغسل نعاس المدرسة.

ماذا أفعل بكل هذا الهواء المُبَرد وأنا أختنق بصمت في الممرات التي أعيش فيها مثل متاهة لانهاية لها؟ ماذا أفعل بكل هذا الضحك وأنا استرجع طُرفة من عشر سنوات مضت لتضحكني؟ ماذا أفعل بكل هذه الأيام الواسعة كقميص أخي الأكبر، وأنتِ بكل براءة وسذاجة تجلسين هناك، تقرأين بسرية كاملة رسائلي القديمة وتعتقدين أنني مازلت ذلك العاشق النحيل الذي لا يتوقف عن التدخين والبكاء؟

ماذا أفعل بأصابعي التي لا تشير إلا إليكِ؟

أيتها الأيام التي تركناها تتفتح وحيدة على جدران الغرباء.

 

hazemm75@hotmail.com

تويتر