ليل أم درمان الطويل

حازم سليمان

لم تكن تنقص صور المراسلين الصحافيين الذين قاموا بنقل أحداث ما بعد مباراة الجزائر ومصر إلا ارتداء تلك السترات الواقية من الرصاص، والخوذ المعدنية حتى نقتنع تماماً بأننا نتابع وقائع حرب حقيقية، ولم يكن الإعلام العربي بحاجة إلا لمثل هكذا حدث ليثبت مرة أخرى كم هو هش وضعيف ومُضلل.

لا أريد أن أكون طرفاً في هذه المأساة العربية، لكن الخيبة كبيرة، أمام مناخ عدائي، الكل فيه يدعي البراءة، ويتنصل من المسؤولية. قنوات رياضية وبرامج إخبارية جعلت الأمر يبدو كأنه كارثة بشرية حدثت بالفعل، وأن أم درمان، هذه المدينة الهادئة، تحولت إلى ساحة موت، ليس في شوارعها إلا القتلة والمرتزقة والوحوش. ليل أم درمان الجميل صار في عقولنا يشبه أفلام المافيا القديمة، حيث العتمة والإسفلت المبلل بالماء والقليل من الدخان هنا وهناك، وفي الزوايا المظلمة ينتشر أفراد العصابات الذين تلتمع سجائرهم قبل أن يبللوا سواد الإسفلت بالدم، ويضعوا الجثث في أكياس سوداء ويلقوها في حاويات القمامة.


في هذه المباراة لم ينتصر غير الجهل..

والتأكيد على أن العرب أكثر أمة قادرة على الاختلاف والتناقض واستثمار أي شيء، مهما كان بسيطاً وتافهاً، وتحويله إلى قضية كبرى تُجيّش لها وسائل الإعلام والأقلام، وتنشغل بها السفارات ووزارات الخارجية والدفاع والصحة. الجزائريون ضربوا المصريين، والمصريون ضربوا الجزائريين، توابيت، سيوف، حافلات محطمة، هجوم على السفارات، والمصالح، وفي الدول العربية الأخرى انشقت الصفوف والرايات والمواقف، والكل خاسر في النهاية.

ليست القضية أبداً مجرد فوز في مباراة، والتأهل إلى كأس العالم، التي أراهن بكل ما أملك- وهو قليل طبعاً- على أننا لن نلمسها، ولن نراها إلا في الصور، بل هي الحاجة إلى أي انتصار. الدول العربية تريد أن تقدم لشعوبها أي نصر، أي أمر تنشغل به، حتى ولو كان لعبة «دومينو»، أو سباق سرعة في أكل «الباجلة». البلدان العربية الخاسرة في كل شيء تريد انتصاراً، مهما كان الثمن. تريد أن تلمع صورتها، أن ترقع ثوبها القديم المغبر.


في هذه المباراة لم ينتصر غير الجهل..

الأثرياء العرب فتحوا خزائنهم وأغدقوا في العطاء، ولكن ليس للتنمية وتوفير فرص العمل طبعاً. الطائرات العربية استُنفرت وملأت السماء، ولكن ليس لمحاربة أعداء «الأمة» طبعاً. الفضائيات العربية جيّشت كل «عمالها» وبرامجها الحوارية، ولكن ليس لمناقشة قضايا التخلف والتردي الاقتصادي والأمني والإنساني طبعاً. وزارات الخارجية أيقظت السفراء من نومهم الناعم، وحمّلتهم رسائل احتجاج قاسية، ليس على وجود 60 مليون أمي عربي طبعاً. وزراء الدفاع العرب شعروا بالقلق، ولكن ليس من إسرائيل واحتلال العراق طبعاً. النجوم العرب تجمهروا، ولكن ليس لمناقشة الأسباب التي جعلتنا ننتج أكبر قدر من الفن الهابط في العالم طبعاً.


في هذه المباراة لم ينتصرغيرالجهل..

الذين انضربوا وضربوا في الشوارع والمدرجات، والذين قذف بعضهم بعضاً بكؤوس الشاي وفناجين القهوة في المقاهي العربية، سيكتشفون بعد أيام قليلة أن هذا الخدر الكروي أنساهم لأيام قليلة البؤس الذي يعيشون فيه، وأن الرابح والخاسر وأنصارهما في سلة واحدة، وأن أعناقهم في قبضة واحدة، وأن مستقبلهم المجهول لم يتغير، وأن تلك الألوان التي زينوا بها وجوههم لن تغير من ملامح البؤس، وأن الوجبات المجانية لن تغنيهم عن جوع الأيام الآتية، وأن القمصان والرايات التي ارتدوها لن تغنيهم عن برد الشتاء، وأن أصواتهم التي بُحت من الصراخ وشتم بعضهم بعضاً كان الأجدر بها أن تصرخ في أمكنة أخرى، ولأسباب أكثر أهمية.


❊❊❊❊

مقتل 14 مشجعاً جزائرياً وجرح 254 على الأقل في حوادث سير تخللت الاحتفالات.

بائع ترمس على كورنيش النيل قال «احنا انضربنا بالخارج عشان مننضربش بالداخل».

الصحف المصرية والجزائرية يُشهر بعضها بعضاً، ولم تتوان الأقلام عن أنواع الإهانات.

جماهير من الجزائر ومصر يطلبون قطع العلاقات الدبلوماسية.


❊❊❊❊


الكأس لهم
وعلى العرب السلام.

hazemm75@hotmail.com

تويتر