رجل زائد على الحاجة

حازم سليمان

أن تكون زائداً على الحاجة..

تبدد زمنك الافتراضي في أوطان، ومهن، ومطارات، ونساء، وحروب، وأفراح مؤقتة وامضة تشبه طائرة ورقية انفلتت من يد طفل ملول.

أن تشعر في لحظة مباغتة يصعب فيها التراجع أنك تُحب امرأة مبهمة، وتكنّ بالولاء لوطن مبهم، وتؤمن بأفكار مبهمة، وأنك ضحية أخرى لا أكثر ولا أقل. وأنك إن وقفت الآن.. الآن تحديداً وصرخت في الشارع «أيها الناس أنا هنا». لن ينتبه أحد إليك، ولن تعيرك امرأة مسرعة إلى عملها أكثر من نظرات فضولية عاجلة، ولن يتوقف ذلك الرجل عن جمع الكراتين على دراجته الهوائية، ولن ترمي لك طائرة الأمم المتحدة بصندوق مساعدات عاجلة، ولن يترك الشرطي صفارته ليقول لك ما بك؟ ولاطلبة المدارس سينشغلون عن نعاسهم، ولارجال المقاهي عن ثرثرتهم، ولا الممرضات عن بياضهن. فتصرخ من جديد «أيها الناس أنا هنا».. يهرب منك الناس، وتُطوى المدينة كقميص مغسول، وتترك وحيداً تواصل صراخك المبُهم «أيتها المدينة أين الناس؟».


هكذا، كأنك ولدت بعد الأوان.. بعد الحاجة.. كشيء فائض، فلم ينتبه إليك المارة، ولم يخبرك أحد ماذا تفعل بملامحك ولغتك وجسدك وتلك الغرائز النابتة، ولذلك، كبرت بسرعة غير مألوفة.. حائراً بما لديك، تحملها كأشياء غير لازمة فتكتب كمن يواسي نفسه:

لم يشترِ لي أبي دفاتر وأقلاماً ملونة.. تركني أحفر أسمائي على الصخور الناتئة، وعلى جذوع الأشجار وعلى جلود الزواحف التي كنت أبيعها لمدرسي العلوم الطبيعية.

لم يعلمني إخوتي الرسم.. تركوني منحازاً للأشكال على حقيقتها، ولذلك، أول صفر نلته كان في مادة الرسم لأني رفضت تلوين الشجرة بالأخضر، بينما كانت الدنيا بيضاء في الخارج.

لم يعلمني أحد الهتاف باسم أحد، ولذلك، عندما زار بلدتنا النائية الجنرال الأول والاخير بقيت صامتاً، أراقب بأسى الأفواه الهاتفة الجائعة، وبكيت من الخوف والدهشة.

لم يعلمني أحد على ماذا أطلق النار من بندقيتي التي ورثتها.. ولذلك، كان ظلي أول شيء أقتله وبرصاصة واحدة في الرأس.

لم أتعلم الموت.. وها أنا على قيد الحياة، امتهن حفر القبور العميقة، وتسجيل أسماء الموتى في السجلات الرسمية، ثابت، أراوح في اللحظة كشاهد على نهاية الكائنات وبدايتها.

لم أتعلم الوقت.. ولذلك، فاتتني كل القطارات والمواعيد والحصص المدرسية، وحين وصلت، كان الأوغاد قد تقاسموا البلاد تاركين لي على الحدود بوابة كافية لذهاب لا رجعة فيه.

لم يخبرني أحد عن الجاذبية.. لذلك، لم أجد صعوبة في الطيران، لكن تغريدي السيئ لم يجذب إلي الإناث، فانتهت سلالتي السماوية، وعدت إلى الأرض بفعل الجاذبية والملل.

لم أتعلم من الآخرين إلا الخيبة.. خيبة رجل زائد على الحاجة، يُمسد على جسد الأرض كحيوان أليف ويهمس لها :


أيتها الأرض أيهما أهم.. ترابك أم دمي؟!


hazemm75@hotmail.com

تويتر