..شبه الرضا!

إبراهيم جابر إبراهيم

أعني هذا النموذج الذي جربناه من الحياة: شبه الإيمان.. شبه الحب.. شبه العائلة.. شبه الأوطان.. شبه الأصدقاء.. وشبه الرضا!

لم نتورط تماماً، ولم ننجُ تماماً، لم ننتصر جيداً، لم ننهزم بما يكفي، لم نذق عسل البلاد، ولم تثق بنا المنافي، لم نخلص للنساء ولم نتقن خيانتهن، لم نستمتع بدور الضحية ولم يناسبنا دور البطل!

لم يرض عنّا العدو تماماً، ولم يغفر لنا الرومانسيون، ولم تؤهلنا الأحذية الرخيصة لقطع الطريق الطويلة، لم نكن الزبائن المفضلين لدى باعة الوهم، ولم يستطع أحدنا أن يرسم شكلاً تقريبياً للحقيقة!

.. لا طائل من البحث المحموم، كل الكؤوس ملأى بالنصف الفارغ!

والنصف المترع مُكوّن من صفحات «الإنشاء» يصوغها كُتّاب مبتدئون، وعشاق يفتقرون إلى الخبرة، وشعراء مراهقون يصدقون أن المرأة (تُدوّخها اللغة)..

هؤلاء الذين يتناقلون بسذاجة منقطعة النظير ما قيل في إحدى الجلسات من أن القناعة «كنز»!

الغريب أن هذا «الكنز» متاحٌ حتى للحمقى، ولا يلزمك للحصول عليه سوى أن تلوذ بزاوية معتمة وتبقى تمضغ عبارات الرضا المغشوش، حتى يتكوّم في حضنك كالرضيع! وهي، إضافة إلى ذلك، ثروة سهلة الحمل، لست مضطراً لمداهنة موظفي البنوك للاطمئنان عليها، فضلاً عن أنها معفاة من الضرائب، وإذا أردت التبرع بجزء منها فلا ضرورة للشيكات والتواقيع، كل ما هناك أن تشرع في التوضيح للمحتاج بأنه يرتع في النعيم طالما أن لديه يدين اثنتين كل واحدة بخمسة أصابع، وهو أصلاً لا يحتاج إلى هذا العدد الوافر منها!

.. ثم عليك أن تلملم سجّادة الكلام قبل أن يخطر بباله أن يسألك هل كان من المتعذر الجمع بين اليدين الاثنتين ودفتر الحسابات أم أنه سيصاب بحساسية من يجمع بين اللبن والسمك؟! وعليك، أيضاً، أن تغادره وأنت قانع بأن ثروتك لم تُمسّ رغم ما تبرعت به، بخلاف ذلك، وإذا شعرت للحظة أنك أنفقت شيئاً فسيكون «كنزك» كالعُملة المزوّرة!

«الرضا» هو الوجبة الاحتياطية المتوافرة دائماً حين لا يجد الفقراء عشاءهم.. والغريب الغريب أنهم وحدهم من يستطيعون ملاحظة النصف الملآن حتى لو حطمت كل الكؤوس التي في بيوتهم فوق رؤوسهم!

.. لم نختبر صلابة مقتنياتنا من القناعات والأفكار والعقيدة والانتماء.. إلخ، ولم نُعرّضها للأسئلة، ولم ننسج لها أيضاً قميص الحصانة المحكمة. يقول فتى إنه يموت من أجل الوطن ثم يموت من «البلهارسيا» في مستنقعات الوطن!

وتقسم المغنية أنه يكفيها الحب ولو كان عشاؤها خبزاً وزعتراً، وهي تساوم الملحن على 20 دولاراً!

تقول امرأة إنه لم يمسسها قبلك غير طبيب الأطفال، وتخبئ في «صندوق الوارد» 20 رسالة قصيرة!

ويقول «حازم سليمان» إن غبار الأسمنت في القوز الصناعية ندف ثلج، وفتات ياسمين يتوزع في الهواء.. ووجهه مبلل برذاذ العطاس!

.. في شبه انتباه مفاجئ تروح تنبش في 40 سنة من الشك: أين راح «اليقين» الذي كانت تغصّ به جيوبي؟!

nowaar@hotmail.com

تويتر