الإمارات ومساكن المستقبل

جورج فهيم

كل شيء في حياتنا يتطور بسرعة هائلة، بدءاً من الطريقة التي نأكل بها، ومروراً بالطريقة التي نتعلم بها، وانتهاء بالطريقة التي نتلقى بها الرعاية الصحية، بل وحتى الطريقة التي نُرفّه بها عن أنفسنا، لكن مع الأسف الشديد فإن المنازل التي نسكن فيها لم تتطور بصورة كافية، وأنا لا أقصد هنا الديكور والأثاث وألوان الحوائط، وإنما اقصد كفاءة منازلنا في استهلاك الطاقة.

وربما لا يعلم الكثيرون أن قطاع المساكن هو أكثر القطاعات الاقتصادية المنتجة لغازات الاحتباس الحراري الملوثة للبيئة على مستوى العالم، حتى بالمقارنة مع قطاع الصناعة ذاته، وبحسب إحصاءات الوكالة الدولية للطاقة، فإن نصيب قطاع المساكن من غاز ثاني أكسيد الكربون المسبب للاحتباس الحراري يبلغ 8.1 مليارات طن سنوياً، أي ما يشكل نحو 30٪ من إجمالي انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، التي تقدر حالياً بنحو 28 مليار طن؛ وهذه النسبة ترتفع إلى 50٪ من الإجمالي، فيما لو أضفنا التلوث الذي تنتجه مصانع إنتاج مواد البناء مثل الإسمنت والحديد والألمنيوم والزجاج.

وإذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه، فإن انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون سترتفع إلى 62 مليار طن بحلول عام ،2050 وسيرتفع معها نصيب المساكن إلى 21 مليار طن. وباختصار شديد، فإن المخرج الوحيد من المصير المظلم للتغييرات المناخية يفرض تغييرات جذرية في طريقة إنتاج ونقل واستهلاك الطاقة، وكل الحلول المقترحة تبدأ بقطاع الإسكان مهما اختلفت التفاصيل في ما بينها، وكل تأخير في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة في كفاءة استهلاك الطاقة في المساكن يعني إضافة 500 مليار دولار سنوياً للتكاليف المطلوبة لمكافحة التغييرات المناخية، التي تقدر بنحو تريليون دولار سنوياً، أي ما يعادل 1.5٪ من إجمالي الناتج المحلي العالمي، من بينها نحو 80 مليار دولار سيتحتم على منطقة الشرق الأوسط توفيرها وفقاً لتقديرات الوكالة الدولية للطاقة.

ورغم ضخامة الاستثمارات المطلوبة لتحويل قطاع المساكن إلى قطاع يتسم بالكفاءة في استهلاك الطاقة، إلا أن العائد على هذه الاستثمارات ضخم للغاية، فعلى سبيل المثال ستنخفض فاتورة استهلاك الكهرباء في المنازل على مستوى العالم من نحو 285 مليار دولار حالياً إلى 130 مليار دولار فقط.

لقد عبر العالم بسرعة رهيبة من الاقتصاد الرعوي إلى الاقتصاد الزراعي ثم الصناعي وأخيراً الاقتصاد الرقمي، لكننا نقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة مختلفة تماماً ستكون كفاءة استهلاك الطاقة هي الفاصل والحكم في كفاءة الأمم وتنافسية الاقتصادات فيها.

وبطبيعة الحال فإن الإمارات لا تقف بعيدة عن هذا الجدل العالمي الذي سيفرض تغييرات هائلة في التشريعات والمعايير والتكنولوجيات المستخدمة في البناء وأساليب التصميم ونوعية مواد البناء، ليس فقط لأنها واحدة من أهم المراكز الإقليمية للتطوير العقاري، لكن أيضاً لأنها لاعب رئيس في صناعة القرارات العالمية الخاصة بمستقبل الطاقة التقليدية والمتجددة.

وهذه النظرة المستقبلية بعيدة المدى هي حقاً أهم ما يميزها عن بقية دول المنطقة وعن كثير من المدن حول العالم، لأنها دائماً تفكر في الغد أكثر ما تفكر في الأمس، وتتطلع إلى ما هو مقبل أكثر مما تحنّ إلى ما صار وراء ظهرها، وتنظر إلى الإمام أكثر مما تنظر إلى الخلف، ولا تدع إنجازات الحاضر تحول بينها وبين رؤية تحديات المستقبل.

georgefahim_63@hotmail.com



 

تويتر