شهادات الحرب الباردة

أحمد السلامي

كان الماضي القريب لروسيا يحفل بعلاقات استراتيجية متينة مع بعض الحكومات العربية، وخصوصاً التي انحازت للمعسكر الاشتراكي خلال الحرب الباردة، إلا أن تفكك الاتحاد السوفييتي أدى في المقابل إلى تفكيك الروافع الأيديولوجية التي كانت تجعل المسافة إلى عاصمة الكرملين تبدو، آنذاك، أقصر من المسافة بين عدن والرياض. وهكذا استعادت المسافة الجغرافية والثقافية بين موسكو والعالم العربي مداها الطبيعي، بعد الانهيار المدوي للدب الروسي.

من عجائب تلك المرحلة أن جامعات روسية كانت تمنح الطلاب العرب، وبكرم ملحوظ، شهادات ماجستير ودكتوراه، ولم يسأل أحدٌ أولئك الذين حصلوا عليها ما إذا كانوا قد أنجزوا بالفعل أبحاثاً ودراسات استحقوا بموجبها تلك الصكوك والألقاب.

وبالقياس إلى عدد الذين حصلوا على تلك الشهادات، يمكننا القول إن بعضها ــ باستثناء شهادات الطب ــ كانت تمنح على ما يبدو ضمن معونات الحليف السوفييتي لأصدقائه.

وظل تكييف العلاقة بين موسكو وبعض العواصم ينحصر في تسويق السوفييت أسلحة تقليدية للاستهلاك في الحروب المحلية، إلى جانب المنح الدراسية التي لم ينتج عنها سوى عودة بعض الطلاب بزوجات روسيات وأطفال شقر. أي أن روسيا كانت حينها مصدراً للسلاح وتحسين النسل!

أما الآن، فقد صارت ميادين موسكو وجامعاتها عصية على خيالات الطلاب العرب، وصارت مجرد ذكرى لطلاب سابقين، يبدو أنهم لم يكونوا ضليعين في اللغة الروسية، إذ لم يعد من الممكن التعويل على أحدهم للقيام بمهمة ترجمة رواية، أو مقالة تتحدث مثلاً عن الآثار الاجتماعية المترتبة على انتقال روسيا من الاشتراكية إلى الرأسمالية.

ما يتذكره اليوم طالب قديم درس في موسكو لا يتعدى بضع كلمات روسية، وتلك الذكرى لا تؤهل أحدهم لقراءة عناوين صحيفة تبث عبر الانترنت. بمعنى أنك لن تجد من يخبرك بثقة أنه لايزال يعود ــ على سبيل المثال ــ لقراءة الطبعة الروسية من رواية «الحرب والسلام». مع ذلك، يمكنهم الحديث بحسرة عن زمن الاتحاد السوفييتي، وبلكنة الأسى نفسها التي يتحدث بها بعضهم عن عراق صدام، وعن كرم عراق ما قبل الحصار والاحتلال.

الأرجح أن الذين ذهبوا للدراسة في روسيا لم يفلحوا سوى في الاعتياد على مكافحة برد الشتاءات الطويلة. أما الآن، فقد صارت موسكو بعيدة المنال، ولم تعد جامعاتها تمنح الشهادات للرفاق باسم تعزيز الصداقة الأممية. كما لم تعد قوائم الأسعار في متاجرها تسعف حتى مواطنيها، لاقتناء ما يلزم لتوليد البهجة والدفء واستعادة ماضي البروليتاريا.

وبحسب أحد العائدين من موسكو أخيراً، لم تعد المدن الروسية، الكبيرة أو الصغيرة، مستعدة لاستضافة أحد بالمجان، حتى لو كان يحفظ تراث ماركس ولينين ومقولات ستالين، فهذا شأن قد يجلب عليه السخرية من الممسكين بالفواتير التي تنتظر السداد.

هكذا تبدو روسيا اليوم، راضخة باطمئنان للواقع الجديد، بعد أن أعادت كتابة لائحة أسعارها، ووضعت أرقاماً جديدة يقال إنها لم تعد تُحتمل.

slamy77@gmail.com

تويتر