بلاغة الاحتجاج

زياد العناني

حين نفكر في بلاغة «عصر الجاز»، نكاد نسمع صوت الحزن الذي قرر أن يصوغ احتجاجه، عبر آلة الساكسفون بين هبوط وصعود وغضب وألم ورقة واهنة، كما نسمع أيضاً في الأجواء ذاتها دوي انهيار صلادة وصلافة المجتمع الأميركي، أمام مطالب الملونين وحقهم في المساواة. أ

حين نقرأ أن آلة،أ مجرد آلة، ينفخ فيها الإحساس الإنساني بفداحة الظلم قد بزت الخطب السياسية الرنانة، ندرك أن فعل المقاومة أخذ جملة من الأبعاد التي راحت تستثمر الموسيقى واللون والكلمة، وتشكل من كل حقل معرفي من هذه الحقول صرخة تدين الآلام المبرحة أولاً، وتدمي همجية الظالم والمغتصب وتعريه أمام العالم، وأمام نفسه، وتفضح وحشيته من دون أن تلجأ إلى اراقة الدماء أو تتحول الى جثة هامدة.

غير أن اللافت في هذا المجال هو أن العرب من دون أمم الأرض كلها خرجوا من معادلة الاحتجاج هذه إلى معادلة أخرى، راحت تتمثل في الحماسة في نشر دم الفوضى والعدوان على الممتلكات العامة، ممثلةأ في خدماتها وفي بنيتها التحتية، وكأن الدولة ليست لهم.. وكأن هذه الممتلكات لم تشيد بأموالهمأ ومديونياتهم للبنوك الدولية، غير آبهين بنوعية الاحتجاج، ومدى تأثيره ومتى يكون ناجحاً أو مجرد «زعرنة» عشوائية، وكيف يمكن أن يترجم في قضية محددة، قد تعني الخلاص من اللامعقول السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي الذي يتمثل في استبعاد الإنسان لأخيه الإنسان، وفق السلطة المتاحة التي يمكن أن تلعب في قوته ومستقبله، ويمكن أن تميز بينه وبين أخيه، وفق الدين أو الطائفة أو الإقليم الذي ينتمي إليه.

هل ضروري أن نحتج على «حكم ما»، قد ينتمي إلى طبائع الاستبداد من خلال حرق البلاد والعباد، أو من خلال إقامة حركة انفصالية تبيع وتشتري وتتخابر وتتمول وتتعاون مع الأجنبي؟، ولماذا لا يكون الاحتجاج عندناأ منتمياً إلى نظرية اللاعنف، ومسترشداً بوعيأ النطق العام، بمعنى أن يأخذ كل أبعاده في المشهد الأكبر من خلال حركة سلمية إنسانية،أ تبدأ مثلاً بموسيقى العود، أو بلون أحمر أو برتقالي،أ أو بوضع إشارة معينة،أ أو حتى بطريقة الطرق على الصفائح المعدنية التي اثبتت جدواها في رفض هذه القضية أو تلك، بطريقة حضارية وغير دموية.

بات معروفاً سلفاً أن الدم لا يأتي إلا بالدم، وأن الشخص الذي يهدم مقومات بلاده، ويخرب مشروعاتها التنموية، ويظلم العامةأ بحجة إصلاح النظام السياسي، له غائية عمياء، ربما تتعلق بالابتزاز السياسي، وربما هي مجرد طموح رخيص في السلطة، على الرغم مما ترفعه هذه الغائية من شعاراتأ تتحدث هنا عنأ إنقاذ الوطن، كما تتحدث هناك عن إنقاذ المواطن.

وأخيراً، دأب بعض المتنورين على ممارسة الاحتجاج ببلاغة مهمة، اعتمدت على لفت الانتباه الذي تبين أنه يمكن أن يغير ويبدل خريطة الظلم، ويمكن أن يفتح الأبواب للحرية، ويحقق مراد الإصلاح، كما حدث في الهند وفي أميركاأ وفي دول أوروبا الشرقية، من غير أن يتحول إلى مجرد سخط أعمى،أ يضيع في الطريق، إلى مراده، ويقع في لعنة الظلم المماثل، بعد أن كان يحاول الخلاص منه.

 

zeyad_alanani@yahoo.com

تويتر