دوائر الكبت

ياسر الأحمد

كلما جاءت “سيرة الكبت” تخيلت ناراً تلتهم غابة، ثم يركض الجيران لإطفائها فيمنعهم رجل الشرطة. بالنتيجة تستمر النار في التهام الغابة، ويستمر الناس في محاولة إخمادها، ويستمر الشرطي في منعهم.

لذلك، ربما يبدو سلوك الكبت سلوكاً دائرياً في حياتنا اليومية، فالأب يكبت سلوك أطفاله بمختلف الوسائل، ويكبت رغبة زوجته بالتعبير بوسائل أخرى. والزوجة تمارس كبتها الخاص عبر حشو أدمغة أطفالها بالعنف والفراغ. والموظف لا يتوانى لحظة عن كبت مراجعيه، وتسويف معاملاتهم. مستعداً كما يبدو لتلقي جرعة الكبت اليومي من جهته الأعلى. وهكذا في الحياة الثقافية التي قد يروج مثقفوها للكبت في صيغه الأكثر دموية. قتلاً وتشريداً. فلا عجب إذا واجهنا مثقفاً يخبرنا أن كبت أنفاس العراقيين هو “تبشير بالحرية”،وأن حصار الفلسطينيين هو نتيجة لإرهابهم السابق.

حتى فرويد يحلل الحداثة الغربية “باعتبار أن ما يكمن في أساس الحداثة باعتبارها عملية اجتماعية - تاريخية هو عملية كبت الرغبات التلقائية - أي تحويلها إلى مشروع عقلاني”، لكن فرويد جاء من رحم ثقافة أطلقت عقال الأسئلة من كبتها التاريخي الطويل، وسمحت للمكبوت أن يتفجر. ثم لجأت بعد ذلك إلى تنظيمه عبر مؤسسات عقلانية وطبية واقتصادية، بحيث تقلل من خطر انفجاره على المجتمع. لكن هناك من يرى بالمقابل أن الكبت عنصر سعادة فعّال داخل الإنسان، ويعتبره مصدراً لتفهّم الخطأ بشكل سلمي إذا صح التعبير. بحيث يدخل الكبت في آليات اشتغال العقل على أسئلته، ليصير الكبت عنصراً دافعاً إيجابياً، بدلاً من كونه عنصر إعاقة سلبياً. 

وهذا ما يتبناه المحللون النفسيون، فهم يرون في الكبت عنصر دفع ليبدع الفنان، منفّساً عن كبته عبر فنه. فالمتنبي مثلاً كان يشعر بالكبت في طفولته، بسبب خمول أسرته اجتماعياً ،فكان شعره تجاوزاً للحظة الكبت بكل ألمها بالنسبة له.

 بل إن فناناً مهماً كدافنشي تعرض لهذا النوع من التفسيرات النفسية لأسباب بروزه، فالكبت العائلي أنتج لحظة التسامي الفنية التي خلقت كل هذا الإبداع.   والكبت يمكن أن يكون ممارسة تحت شعار ديني أيضاً، فتحت شعارات دينية منتقاة يتم كبت ممارسات اجتماعية معتادة، وإبراز ممارسات أخرى. حتى ولو كانت تلك الانتقائية مخلة بشروط دراسة النص الديني. وبذلك تكبت الحريات الدينية وتسهل مصادرة الممارسات المغايرة تحت شعارات مختلفة. لكن النتيجة واحدة دائماً ..الكبت.

الطريف أن أحد الباحثين حلل بعض الشخصيات الشهيرة في تاريخنا ليستنتج أنها جميعاً مصابة بالكبت، والجنسي بالذات، فهو يرى أن جمال الدين الأفغاني كان مكبوتاً جنسياً، لأنه لم يتزوج، وأن سيد قطب ظل عازباً بسبب عقدة كبت جنسي، ويخبرنا أن أبا الأعلى المودودي كان مكبوتاً جنسياً، لكن عبر الخوف من حركة تحرر المرأة رغم زواجه.

تبدو هذه التفسيرات طريفة ومثيرة للتفكير، لكنها لا تقدم تحليلاً عميقاً لظاهرة الكبت بحد ذاتها، بل تكتفي بمراقبة تأثيراتها المتخيلة.

بينما لا يكتفي الكبت بممارسة دورانه ليحفر طويلاً في حياتنا.

 

ytah76@hotmail.com

تويتر