المتمرّد الذي تحب أن تكرهه

قيس الزبيدي

ينتسب المخرج الطليعي إريك فون شتروهايم، إلى أعظم مخرجين في تاريخ السينما الأميركية الصامتة؛ غرفث وشابلن. ورغم مشواره الصعب فإنه لم يتوقف عن رسم صورة حقيقية للمجتمع الأميركي.

شتروهايم نمساوي الأصل، خدم في الجيش ملازماً ثانياً، ومن ثم شد رحاله إلى أميركا. تقلب في مهن عدة بدأها بالعمل في غسل الأطباق وفي سكة الحديد وفي حراسة ركوب الخيل، وأنهاها مراسلاً عسكرياً في حرس نيويورك الوطني. جاء إلى السينما عن طريق عمله مساعد مخرج مع غرفث، الذي مثل أيضاً في أفلامه وكان مستشاره العسكري في تنفيذ المعارك الحربية. وحينما أخرج فيلمه الأول «أزواج عميان» كتب له السيناريو، وصمم ديكوره، ومثل فيه دوره المُفضّل، دور الضابط الألماني الصارم، على هذا لُقب بالرجل الذي تحب أن تكرهه، ويبدو أنه حافظ على لقبه عند مُنتجين يكرهونه.

شكل «الجشع/1923»، أعظم أفلام شتروهايم، حالة مأساوية في تاريخ السينما. نشأت المأساة من أعداد رواية فرانك نوريس الطبيعية «ماك تيك» ومحاولة معالجتها بأمانة، كما كُتبت صفحة صفحة. توقف المخرج أيضاً عند رموزها الصوتية وحولّها إلى رموز مرئية لكن مبتكرة، مثلاً «صوت ماكينة خياطة»، رمز فيه الكاتب إلى الزواج المتنافر، وعالجه ضمن طقوس مشهد «زواج» العروسين وقابله، في اللقطة نفسها، متزامناً مع موكب «جنازة» مهيب يمر في الشارع. كذلك صور مشاهد الرواية، على عكس ما هو مألوف، في أماكن أحداثها الأصلية نفسها، حتى إنه صنع ديكوراً خاصاً، باهظ التكاليف، لأحد شوارع سان فرانسيسكو، ليتجنب التغييرات الحديثة التي طرأت عليه. وهكذا... النتيجة كانت فيلماً يتألف من 42 فصلاً، وتستغرق مدة عرضه 10 ساعات.

ينتمي فيلم «الجشع»، أصلاً، إلى السينما التجريبية، سار فيه شتروهايم على خطى معلمه غرفث، وطور تقنياته وأسلوبه في المونتاج المتوازي كما استعمل اللقطة الكبيرة واستخدم المزج والظهور والاختفاء التدريجي، وأضاف «اللون الأحمر» إلى كل تلك المشاهد الحسية التي تعبر عن حب المال، وإلى كل تلك المشاهد الرمزية، التي تعبر عن الحسد والخيانة.

تختلف المصادر حول طول الفيلم الأصلي، وقدر لويس جاكوب طوله بـ42 بكرة، علماً أن نسخة العرض النهائية وصلت إلى 150 دقيقة، نتيجة رغبة قسرية من مدير الإنتاج ارفنغ تالبيرغ، خصم شتروهايم اللدود، الذي نجح في استبعاده نهائياً، وأوكل «مونتير» في الاستديو لإنجاز عملية المونتاج القسرية، التي تعرض فيها الفيلم للحذف الهائل والتشويه.

لكن رغم مأساة ما حصل، فإن الفيلم دخل تاريخ السينما كتحفة فنية، ومازال يبرهن على عبقرية مخرجه وأسلوبه المبتكر في «تفليم» الرواية وكشف مغزاها الفكري، وفضح دور المال وتأثيره في تشويه العلاقات الإنسانية في المجتمع الرأسمالي.

ويعد شتروهايم أكبر عبقرية سينمائية في عصره وأول ضحية بارزة لنظام الاستديو، لأنه لم يخضع، إطلاقاً، لمقاييس هوليوود التجارية.

يرمز شتروهايم كضحية لهوليوود الجديدة، التي بدأت تستأصل شخصية الفنان، وتجعلهم ـ كما غرفث ـ ضحية للمنتجين المتنفذين. ويعتبر يوم استبعاده من الاستديو، بدايةً لعصر هوليوود الجديد وبداية تاريخها الحقيقي!

 

alzubaidi0@gmail.com  

تويتر