مراكز صناعة الكتاب
حاضرنا المضارع بات يسعى الى سلعنة كل شيء وتحويله الى مهارة يمكن الحصول عليها، وان تعلق الأمر أصلاً بالموهبة، وان هذا السعي بات يتقافز بطريقة كاريكاتورية لا تخلومن الفكاهة. وفي زمن تشرنق فيه المبدع، ليس على المستوى العربي فحسب بل على المستوى العالمي اجمع، في مصادفته الموحشة والمحايدة تجاه ابداعه الذي هو اعز ما يملك. فإننا صرنا نسمع عن دورات أدبية تقام في العديد من العواصم العربية والعالمية لتعليم كتابة الأدب بكل صنوفه، على اعتبار أن الأدب هو في الأساس حرفة يمكن تعلمها وإتقان خفاياها.
ومازلت أذكر القاصة الأردنية التي التقيتها في مطلع تسعينات القرن الفائت وأهدتني خلال اللقاء عدداً من مجموعاتها القصصية، كيف انني حينما قرأت قصصها شعرت بأني أقرأ قصصاً ذات طعم بلاستيكي معدني وتفتقر لتلك الطراوة التأويلية التي تتمتع بها القصة القصيرة. وكان عليّ في لقائي الثاني معها أن اسألها عن الكيفية التي بدأت بها كتابة القصة القصيرة. وأذكر اني دُهشت تماماً وهي تخبرني بأنها تعلمت فن كتابة القصة القصيرة في معهد أميركي خلال وجودها في اميركا. وكم زادت دهشتي حينما علمت في سنوات لاحقة ان العديد من المراكز الثقافية العربية، يقوم بتنظيم دورات لتعليم فن كتابة القصة القصيرة. وان هذه المراكز تمنح منتسبي هذه الدورات شهادات تعلم فن كتابة القصة القصيرة.
والغريب ان هجمة التعليم والتعلم على كتابة الفنون الإبداعية لم تتوقف عند فن القصة القصيرة، بل ذهبت ايضاً الى تعليم فن كتابة الرواية وكتابة الشعر ايضاً. وفي العاصمة اللبنانية بيروت اقامت الروائية اللبنانية نجوى بركات محترفَاً يسعى الى تعليم فن كتابة الرواية اسوة بالمحترفات التي تقام بهذا الخصوص في اكثر من عاصمة عالمية. وقبل يومين قرأت عن دورة تدريبية رابعة نظمها بيت الشعر في امارة الشارقة وهي خاصة بتعلم فن الشعر والعروض. انّ واقعنا الحالي الناهب في الفيتنا الثالثة هذه، يسعى الى شرذمة الأدب وخرق صلابة سره الكامن اصلاً في الموهبة التي يكتسبها المبدع عن طريق تعميق قواه التخيلية في قراءة العالم والقراءات الحبرية الأخرى. وهي، إن شئنا التوضيح اكثر، رغبة في تسليع الأدب خامةً وموهبةً أيضاً.
ولا أدري كيف يمكن لدورة تدريبية لا تتعدى على الأغلب ثلاثة أشهر أن تصنع قاصاً يكون بقامة تشيخوف او موبسان أو ادغار الن بو أو يوسف ادريس وزكريا تامر. وأن يحفر حفرهم في وجدان الناس عبر القصص التي صارت علامة في التاريخ العالمي الخاص بالقصة القصيرة.
وكيف يمكن لدورة في محترَف روائي ان تنتج كتاباً في فن الرواية بقامة بلزاك او ديستوفسكي وهمنغواي وماركيز وماريو ساغا وشلوخوف ومحفوظ. كيف يمكن لمتخرج طازج من هذه المحترفات والدورات أن يكتب في مساحة تمتلك تلك الآماد التي ارتادها هؤلاء. وكيف يمكن لدورة في تعليم فن الشعر أن تنتج صاحب موهبة هي من أصعب المواهب وأعقدها وهي موهبة كتابة الشعر. ان على من يقيم مثل هذه الدورات أن يكون اكثر تواضعاً ليعلن أنها دورات تقوم على تعليم فن القراءة، ذلك أن من احدى المصائب العربية المُزمنة هي أن من يقرأ يكتب!