الأعمى يبدو رائياَ

ياسر الأحمد

في بعض الأعمال الدرامية تظهر شخصية الأعمى كشخص عارف بما سيحدث، عبر جمل متفرقة وإشارات يلقيها ضمن السياق أو خارجه، يفهم المتلقي أن هذا الأعمى «يعرف»،وأن معرفته تمتلك خاصية النفاذ التي يفتقر إليها المبصرون.

تبدو هذه الثيمة مغرقة في القدم، وملازمة لصورة العرّاف الأعمى.

سنجد هذه الإعاقة بين الشعراء أيضاً، فهوميروس أهم شعراء اليونان ومؤلف ملحمة الإلياذة كان فاقداً للبصر. وكأن الثنائية تتجسد عبره، ثنائية الظلام والنور، أو العمى مقابل البصر، أو الضلالة مقابل الرشاد. بحيث يبدو موضع الشاعر الأعمى موضعاً شديد الجاذبية كأسطورة، أو كحدث غريب لا نصادفه دائماً. فبالإضافة للحضور الشعري تتقدم العاهة هنا طاقة تفسيرية للنص تميل بنا نحو «الاستغراب المثالي»، فكأننا نسأل: ألم يكفه العمى ليضيف فوقه ضلال الشعر؟

ربما يكون الشاعر العبّاسي «بشار بن برد» هو النموذج المناسب لهذه الفكرة، فهو شاعر متميز شعرياً، ضليع في اللغة ومبدع في الصورة الشعرية. وساخر أحياناً. لكنه صنف دائماً كشاعر زنديق. بحيث أصبحت الزندقة أول ما يتبادر للذهن عند ذكره، ونهايته الأليمة تذكر بنهاية مأساوية لبطل إغريقي. فهو قتل ضرباً بالنعال ورمي في قارب على دجلة.

أيضاً الصورة الأساسية لأبي العلاء المعري في الأذهان أنه «رهين المحبسين»، وكثيراً ما نظر إليه ببعض الإشفاق لاجتماع العمى والإلحاد عليه كما يقول ناقد إسلامي.

لكن أسطرة العاهة تبدو مختلفة بعض الشيء إذا حاولنا تفسير أدب كاتب آخر أعمى «كبورخس» فمراقبة أدبه ستؤدي بنا لاكتشاف متاهات عمياء، أو محاذاتها بشكل لطيف وأخّاذ. فتعامله مع العمى مليء بالاكتشاف والحلم فقد كان يعتبره «هدية منتصف العمر». وأوديب نموذج مدرسي ملائم جداً فالخطيئة قادته إلى العمى ثم الحكمة لاحقاً.

لكن هذه العاهة قد تسهم بشكل ما في نظرة أحادية للعالم، بحيث يصبح المجتمع بشكل ما عدواً، وهذا موضوع آخر يحتاج لتناول نفسي واجتماعي، ولذلك يفسر البعض انتقاد طه حسين الشديد للمتنبي بتعامل مزاجي خاص، «فعدم الحب ناشئ عن التعامل المزاجي مع الأدب، إذ المتنبي لا يصور عوالم طه حسين، إن لم نقل أن المتنبي قد أكثر في ديوانه شيئاً يكرهه طه حسين، وإكثاره من ذكر كلمة العين والعمى، مما يدفع إلى التساؤل، هل كانت تثير هذه الأبيات وما شبهها من ذكر العنوان شيئاً في نفس طه حسين، أو سببت ردود فعل سلبية من طه حسين وهو يغضب جداً ممن يشير إلى كف بصره أو يتصرف معه على أنه كفيف البصر، وقد حدثنا في كتابه (الأيام) أنه كان يحزن ويثور عندما يؤنبه أحد المشايخ في الأزهر بقوله يا أعمى».

هل يحق لنا التساؤل هل أسهم عمى طه حسين في خلق مكانته الأدبية أو منحه التقدير نوعاً ما؟ ونحن نقرأ كلمات بورخس عن عماه الشخصي جداً

«شبه الظل هذا بطيءٌ ولا يسبب أيّ ألم، إنه ينزلق فوق سفح ناعم ويبدو كالأزل».

 

ytah76@hotmail.com

تويتر