لا أحد يلتفت في الزحام

أحمد السلامي

يحتاج المرء في بعض الأحيان إلى بذل مجهود خرافي لإقناع نفسه بأن ثمة جماليات تختفي وراء سطور قصيدة منشورة في مجلة شهيرة أو منتدى إلكتروني، لمجرد أن النص المنشور في المجلة يحظى بإعجاب متصنع من قبل أصدقاء، فيما آخرون كرسوا أنفسهم لكتابة التعليقات أسفل نصوص المنتديات، وهؤلاء بارعون في إيهام أصحاب تلك النصوص بأنهم يحققون معجزات في ميدان الشعر الحديث.

الشعر هو الآخر لم يعد ذلك الجوهر المتسامي، والقصيدة لم تعد ابنة اللحظة الإبداعية المشحونة بأنا الشاعر والممتزجة بخلاياه، ففي عصر المسابقات الشعرية المتلفزة، أصبحت القصيدة جسراً للعبور إلى مراتب الوهم في خيالات القبيلة، كما أصبحت، عبر تلك المسابقات، وسيلة لنيل جوائز لم يكن يحلم بقيمتها الجواهري أو البردوني.

ويطول الصمت ولا نسمع أحداً ينتقد أداء مجلة ثقافية أو لجنة تحكيم أو مهرجان، ويستمر هذا الصمت المريب بفعل تشابك مصالح القادرين على تفعيل المنابر الإعلامية المؤثرة، فلا أحد يلتفت في الزحام الذي يراكم الكثير من الزيف، ليعترف لنفسه على الأقل أنه يشارك في تسويق العبث، ويقرر أن يتمتع ولو ليوم واحد بالسير منفرداً، بعيداً عن تقييمات الآخرين وأحكامهم الذوقية المشحونة بالمجاملات.

لا أحد يلتفت في الزحام إلى ذاته، ولا احد يجرؤ على الامتناع عن التصفيق بحماس لقصائد الهذيان والأغاني المتشابهة.

السير في الزحام لا يخلو كذلك من مشقة التورط في قراءة كتب ومختارات شعرية لأدباء حازوا شهرة إعلامية كاذبة، ولم يعد أحد يجرؤ على الحديث عن الركاكة في أعمالهم. بل أصبحنا جميعاً نتواطأ معهم ومع ذواتنا، ونمضي بلا وعي في التسابق لاكتشاف المقاطع المتوهجة بالفراغ في منشوراتهم الأنيقة.

يحتاج المرء كذلك إلى مجهود إضافي لإقناع نفسه بأن ثمة ما يستحق السير خلف زحام المهرجانات الأدبية وأحاديثها الجانبية، إذ لا جديد يتبلور في غالبية الملتقيات سوى استمرار تكنيك العلاقات العامة والتربيطات التي يقوم بها المشاركون لضمان عودتهم إلى ذات الملتقى أو المهرجان في دورته التالية، لدرجة أن البعض أصبح يحتكر تمثيل بلده في مهرجانات متعددة، وكأنه وكيل حصري لمنتج نادر.

وقد جرت العادة في المثاقفات العربية على تأجيل المبادرة بطرح الرؤى والأفكار الجديدة، في مقابل الاعتماد على نهج انفعالي، يتم استحضاره على هيئة رد فعل موازٍ لفعل سابق، يكون هو المحرك للجدل في الساحة.

لكن المشهد الثقافي الآن يمر بفترة هدنة، باستثناء الرد على المهرجانات الرسمية بأخرى ذات طابع مستقل. غير ان الاستقلالية وحدها لا تكفي لتنظيم حدث مختلف يسعى لتحريك المياه الراكدة.

وأخيراً بدأ شعراء مصر يستعدون للتحضير لعقد الملتقى الثاني لقصيدة النثر، وإذا كانت الدورة الأولى التي عقدت في مارس الماضي قد تزامنت مع انعقاد المهرجان الرسمي، وهو ما جعل الملتقى البديل يبدو حدثاً مشاغباً لا أكثر، فإن الملتقى الثاني مطالب بالخروج من خانة رد الفعل وتحرير هذا الحدث من ملابسات الصراع الشكلي، ما لم فإن القاعة ستبدو خالية إلا من الزحام. او كما قال الشاعر محيي الدين جرمة: «القاعة فارغة إلا من التصفيق».

 

slamy77@gmail.com

تويتر