معنى يطارد غيمة

ياسر الأحمد

«الحقيقة دائماً في الهامش» (غادمير)


بنية مراوغة، هذا أهم معلم نجده في ديوان «آخر الورثة من سلالة النخيل» للشاعر السوري باسم القاسم، وهو أول عمل يصدرله عن «دار الفرقد» في دمشق. في نصوص هذا الديوان التسعة، سيصعب علينا تثبيت صفة جامدة تشمل كل القصائد في سوية واحدة، فعنوان الديوان بالإضافة إلى النص المفتاحي القصير الذي يضعه الشاعر في أوله، كلها تعزز حيرتنا، فهو يتحدث عن قلعة للمعنى، يحاصرها فرسان اللغة، وما أن يفتحوا مغاليقها حتى يهدونها المعنى كله. والعنوان يشي برغبة في التواصل مع سلالة المعنى، وكأنه خاتم الورثة في تلك السلالة.

إذاً، محصلتنا من العنوان والنص/المفتاح ستكون معنىً رابضاً في تخوم اللغة، وسنعتقد أن الشاعر بما يبدعه سيرسخ تصورنا. لكن قراءتنا للقصائد واحدة تلو الأخرى ستذهب بنا في مسارب أخرى سوى المعنى، وندرك أن «للمعنى فصولاً لا تمر على الصور». تكمن المراوغة في أن النص متعدد البؤر، فسنجد أحياناً أن الشاعر ينطلق نحو عملية الخلق ذاتها، من دون أن يهتم بإبراز المعنى الذي وعدنا به ليقول «طلقاً.. على جسدي بدأت الغيم.. منذ نعومة الشفق الضرير..».

وفي بؤرة أخرى، سنجد النص مكتظاً بالفكرة، بحيث نكاد نتحسس اللغة أو الدفقة الشعرية ببعض الصعوبة، ليقول «من هاهنا.. بدأ المهاجر قصة.. عن أمةٍ قتلت شهيداً.. لكنه ترك الحديث وراح يضرم صحونا بعض انتباهٍ كي ننام..».

على أن هذه المراوغة لا تخلو من متعة، وخصوصاً عندما يعيد تكوين بعض ما حدث لنا، ليهتف أحدنا «وهذا ما حدث لي أيضاً» فالمعنى يفترض التواصل كهدف أول يوظّف اللغة لصالحه. لذلك، يستطيع كلٌ أن يتذكر أمه وهو يقرأ «أرتد نحوي حين يلمسني بنفسجها.. وتدعوني إلى شاي الصباح.. لاشيء إلا أنها أمي تقلّد أمها»، فسرد الحادثة الصباحية يحمل طاقة تواصل مفهومة منا جميعاً. وهذه ميزة بقدر ما تشكل توتراً وقلقاً في اللغة والصورة، لكنها ستميل نحو العادية، عندما تقول لنا ما نعرفه جميعاً، وهذا فخٌ يحتاج ذئباً ممسوساً بالشعر لينجو منه. وزيادة في المراوغة، تميل بنا بعض النصوص نحو الدراما شعراً من دون أن تستنزفها مجانية السرد أو جفاف المعنى، فالمعنى هنا يحمل رؤية/مرآة. ولذلك؛ نستطيع أن نتخيل أنفسنا في محكمة شعرية، ينظمها الشاعر ويحملها بالدراما والتوتر بين الأشخاص، كما في نصه «حكايا المهاجر». فالشاعر هنا لا يغني أبداً بقدر ما يعطي الكلام صبغة فورية واضحة، وكأن الكلام قيل في أثناء قراءتنا للنص من دون أن يتخلى عن حسه الشعري وأسئلته الوجودية نوعاً ما، فالمهاجر متحول ومتنقل كما يتحول الكلام في شفاهنا بين النفي والإثبات، واللغة لا تمسك بما يريده الشاعر إلا بقدر ما نصنعها نحن قبله.

والمراوغة تأتي أيضاً من تحميل النصوص تجربة صوفية، لكن من دون إفراط، فكلمات القصيدة تأتينا من معجم صوفي، يحتفظ بحقه في التماس مع اللحظة الصوفية من دون الانغماس في عنف التجربة وضراوتها. لذلك؛ لا نحتاج إلى فَناء صوفي لنحس جمال هذا المقطع، على الرغم من استخدامه تعابيرهم «من قاب قوسين ابتدأت النور.. يغسلني.. يشق الصدر عني.. كي أراك عرشاً على موج العماء مرصّعاً بالممكنات».

Ytah76@hotmail.com

تويتر