مساجلة في وادي النار

أحمد السلامي

التقينا من دون موعد مسبق، كنا ثلّة من عشاق الدهشة، نبحث عن بدائل لحياة رتيبة من الصعب أن يتجاوزها اليمنيون في المدى الزمني المنظور.

وللرتابة في صنعاء ملامح قد لا يلمسها من ينهمك في مشاغله، لكنها رتابة قاسية لا تكف عن استنساخ حضورها اليومي في طقوس المقيل واستحلاب أوهام الاسترخاء، في أجواء ملبدة بحوارات ضبابية، لا تفضي إلى معنى، ولا تهدف إلى معالجة إشكاليات الواقع المطحون بترحيل الأزمات.

بعضنا آثر الانقلاب على هذه العادة المرتبطة بالمكوث في الأماكن المغلقة خلال فترة ما بعد العصر، وقررنا الالتحاق بجلسة التأمل في الهواء الطلق لمراقبة غروب شمس صنعاء الخافتة، هذه الجلسة من ابتداع شيخنا الأديب والسياسي المعتق أحمد قاسم دماج، ولمن لا يعرف، كان الرجل إلى وقت قريب يترأس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وهو أيضاً البطل الحقيقي في أحداث رواية «الرهينة» التي كتبها الراحل زيد مطيع دماج.

يدشّن الأستاذ أحمد قاسم جلسة التأمل اليومية قبل المغرب بدقائق، يجلس على كرسي أبيض في حديقة بيت الثقافة في قلب صنعاء، وسرعان ما تكتمل حلقة الكراسي البيضاء، وينتظر الجميع بصبر ولا مبالاة لحظة الغروب، وما تثيره في النفس من شجن محايد يشبه موسيقى أليفة، لا يمل المرء تكرار الاستماع إليها.

تأمل مشهد الغروب من تلك الحديقة الصغيرة المحاصرة بالمباني يجعلني أتذكر قصيدة للراحل محمد حسين هيثم، يقترح فيها بحراً للمدينة الجبلية لتلطيف مزاجها المتقلب.

كان الشاعر طه الجند آخر الملتحقين بدائرة الكراسي البيضاء. يشعرك حديثه بأنه في حالة كتابة دائمة لقصيدة لا نهائية، هي قصيدة الحياة المربكة التي تضج بتجار «الشنطة»، حسب وصفه لطفيليات المشهد الثقافي.

قال إنه عاد للتو من زيارة قريته في منطقة وصاب الخضراء، وكأنه يحرضنا على العودة إلى الجبال والوديان الفسيحة التي هجرناها، وانتقلنا للعيش في زحام المدينة، أو القرية الكبيرة التي تتخبط أزمنة الماضي في أزقتها، ولم تعثر حتى الآن على زمنها الخاص.

بدأ طه يصف لنا أجواء القرية وأثر أمطار الربيع في إعادة قدر من البهجة إلى أرواح الفلاحين وأنفاس الأرض العطشى، ومن دون أن يقاطعه أحد، أشار بنبرة حنين إلى استحالة المقارنة بين العيش في فضاء المدينة المغلق وفضاء القرى التي تلامس الغيوم والنجوم. أسهب صديقنا في وصف مباهج الخضرة وسماء الريف الصافية واحتفال العشب بالمطر في «وادي النار».. سألناه عن سر تسمية الوادي بهذا الاسم، فقال أحدهم على سبيل التخمين، ربما اندلع بركان في الوادي وأطلق حممه الملتهبة فسمي بوادي النار، لكن طه استدرك قائلاً إن ثمة أسطورة يتناقلها أهالي المنطقة، مفادها أن الوادي شهد في الزمن الغابر مساجلة حامية الوطيس بين شاعرين كبيرين، ولما احتدت المنافسة بينهما وبلغت ذروتها انتفض الوادي واشتعلت النار في حقوله كتعبير مجازي عن تأثر الطبيعة بأصداء المبارزة الشعرية الساخنة بين الطرفين..

نسينا أن نتأمل مشهد الغروب، وسحقنا الرتابة مؤقتاً ونحن نستمع إلى هذه الأسطورة العجيبة التي تحتفظ للشعر بمكانة خرافية في الذاكرة الشعبية.

يشغلني الآن سؤال: العشب النابت في وادي النار. ترى كيف تدوزن خضرته أوتار الماء وجمر الشعر العالق في بطن الأرض الحبلى بالأسطورة.

salmy77@gmail.com

تويتر