عماء ساراماغو

خليل قنديل

إذا كان الشعر في أساس تكوينه يعتمد على قوة المخيال وتأجج قواه عند الشاعر، فإن السرد الذي يتكئ في تشكيل بناه عند السارد على الواقع وفيزيائيات تكوينه وتوصيفاتها، حيث يستطيع داخل هذه الإتكاءات أن يمنح روحه القليل من الراحة في قدح مخياله، بمعنى أن الخيال في السرد يأتي بحسب ما تتطلبه المشاهد الكتابية في السرد.

لكن، كيف يمكن لرواية كاملة الدسم أن تعتمد في تشكيل قواها السردية على قوة التخيل عند صاحبها، ولا تحتاج من فيزيائية الواقع وتشكيلاته إلا إلى النزر اليسير، أما الباقي فهو محض تخيل.

هذا هو التحدي الكتابي والإبداعي الذي يضع فيه الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو ذاته أمام الحبر والقارئ في روايته ذائعة الصيت وصاحبة نوبل «العمى».

إن عماء ساراماغو الذي يبدو في مطلع الرواية بما يشبه المفارقة التي تقدر على شد انتباه القارئ تتحول لاحقاً إلى كابوس يطارد قارئ الرواية حتى نهايتها. حيث السائق الذي يعطل حركة المرور أمام الشارة الروائية في وسط المدينة بسبب العماء المفاجئ الذي أصابه، وجعله يرى العالم أمامه بشكله الحليبي المطلسم، كان يمكن أن يكون عماء فردياً للسائق فقط، لكن تحدي ساراماغو الكتابي يكمن في جعل هذا العماء وباء يصيب مدينة كاملة، لا بل دولة كاملة.

إن العينة العشوائية التي أصيبت أول الأمر بالعمى، وتم الحجر عليها من قبل الدولة في مكان يشبه المعتقل هي التي اختارها ساراماغو، وهي التحدي الكتابي لساراماغو وهو يحشرهم ويحشر الحالة الإنسانية التي فقدت أعز ما لديها، وهو البصر في خانة الابتكار والتأليف الكتابي.

إن العماء الإنساني الجماعي الذي ابتكره ساراماغو يتحول إلى وباء يقدر على تحويل من أصابهم العمى إلى جيف حية، تفقد تدريجيا قواها المدينية وعاداتها الإنسانية المعتادة، وتتحول إلى كائنات حيوانية تبحث فقط عن طعامها.

إننا في رواية «العمى» لسنا أمام كتابة تعتمد على السائد واقعيا، لتنهل منه مثل معظم الروايات، بل نحن أمام حالة تأليفية للكتابة، تتطلب جهدا في قدح المخيال واستدراج الشخوص ومغنطتهم الكابوسية لهذا المخيال.

ويعمل ساراماغو في «العمى» على خلع الأسماء عن أصحابها ليمنحهم صفاتهم الوظيفية أو بمسمى العاهـــات التي أصابتهم قبل العمى، مثل: «الطبيب، وزوجة الطبيب، والطفل الاحول، والرجــل معــصوب العين، والطفل الأحول». إن ساراماغو يرمي بسنارته إلى الواقع، كي يأخذ الإشارة الأولية لأسماء أبطاله كي يزجهم في عماه المقترح، وكي يجترح فلسفته الخاصة من هذا العماء الذي تحول إلى وباء عام، كاشفاً عن السرعة العجيبة التي يستجيب فيها الإنسان لحالة الوباء العام لبدائيته الجسمانية وإعلان تخليه عن تحضره وتاريخه المديني وكل مرجعياته التاريخية، في سبيل الحصول على أولويات احتياجاته الحياتية.

إن مخيال جوزيه ساراماغو الخصب استطاع أن يشكل بناء على حادثة افتراضية رواية استطاعت أن تضع القارئ في كابوس العماء، وتصور مأساة أن يفقد الإنسان بصره، لا بشكل فردي بل بشكل جماعي.

والغريب أنه استطاع بهذا التحدي الخيالي أن يجعل القارئ يتحسس قدرته على التمتع بالبصر في كل سطر من روايته، ويجعل فرحة التمتع بالبصر تحدث داخل عماء كامل هو صاحبه، وهنا تكمن عظمة ساراماغو.

 

khaleilq@yahoo.com

تويتر