إلى حد البخل
في كل رواياته تقريباً يقودنا الروائي اللبناني حسن داوود إلى أقبيةٍ من الانطواء على الذات ،والحوار معها بكل الطرق الممكنة، وبكل ما يسمح به السرد في هيئته الصحافية إن جاز التعبير.
فبسبب الحرب الأهلية تدمر «بناية ماتيلدا» بالكامل ،وبسبب الحرب ذاتها تدخل زوجة قائد الميليشيا غيبوبتها، وتدخل بعد ذلك قوقعتها التي تعزلها حتى عن شعورها بالأمومة تجاه ولديها. وبسبب الحرب ذاتها يموت ابن بطلة «لعب حي البياض» وهي التي تحكي لنا عن أمراضها وسكرها وما يشبه الإعاقة. ومجمل هذه الروايات يكتنفه حضور الأنثى ساردة ومستطردة وكأنها تجلس لتضع حياتها أمام عينيها ثم تنتقي أبسط الأشكال وأقلها اهتماماً بالاستعارات الشعرية. لا تريد المرأة أن تجمّل العالم ولا أن تمنحه حياة إضافية بعد موته، لكنها وكأنما تجلس لتتأمل جثته ثم تصورها بكاميرا سينمائية. وتنقلها لنا كما هي بماكياج خفيف لا يكاد يرى.
ولأن لحسن داوود عيناً سينمائية فأعماله بشكل ما سيناريوهات محتملة لتحقق سينمائي، فـ«الكاراكتر» الشخصي يبدو في رواياته من التنوع والبساطة في وقت واحد، بحيث يمكن لأي امرأة أو رجل أن يقول: هذا جزء من تجربتي الشخصية.
ربما لذلك نجد في روايته «ماكياج خفيف لهذه الليلة» أن الرسام والسينمائية هما الأبرز حضوراً، ولكن برفقة امرأة هائمة منعزلة عن الحياة تقريباً، صحت من الغيبوبة/الحرب لتقطع علاقتها بالعالم من حولها، ثم لتحوله إلى مقاطع صغيرة لاستعارات فاشلة.
والحرب حاضرة بعمق في مجمل أعماله، فالحرب كما يقول «أزمة للتحولات الكبرى» لكن كتابته عن الحرب تبدو موازية للحرب من خارجها، فأبطاله يعيشون الحرب كحدث واقع لا يد لهم في منعه، ولا يريدون المساهمة فيه أيضاً. لكنهم مجبرون أن يعيشوا الحياة تحت القصف، ربما لذلك قلما نلاحظ حواراً في روايات، فالشخصية الأساسية ليس لديها وقت للحوار، فقط تبدأ بالسرد ثم تغوص في تلافيفه، وتكتشف تناقضاتها كلما تحدثت أكثر. شخصيات حسن داوود شخصيات مريضة بالسرد، ولكنها معاقة بأكثر مما تقوى على فتح حوار ما. ففي روايته الممتعة «أيام زائدة» يذهب بنا إلى هواجس الرجل المسنّ و«طفشه» من الحياة، ويستمر السرد دون أن نرى سوى مزيد من الإعاقة وانتظار الموت، عدا حوار واحد قصير. وهو للمفارقة مع رجل الدين الذي ينتمي هو الآخر إلى زمن ذلك البطل/المسن.
وهو في روايته «سنة الاتوماتيك» يختار أبطالاً من قاع المجتمع، بالمفهوم الثقافي على الأقل، فهم عمال في فرنٍ، يعاصرون تحوله من فرن يدوي إلى آخر اتوماتيكي، وكأن الخراب الذي يعشش في عوالمه الروائية توسّع حتى شمل العمل في تقنياته القديمة.
حسن داوود مشروع روائي متميز ومتماسك، بشكل يسمح لنا بالادعاء انه يعرف كيف يوزع ألعابه الروائية، دون أن يغرقنا في هوامات شعرية مملة، بحيث يذهب إلى حد البخل في الاقتصاد اللغوي، وفي محاصرة شعرية السرد.