في الهامش

ياسر الأحمد

لو لم يكن للهامش فضل سوى أنه جعلنا نقرأ قصائد الشعراء الصعاليك لكان ذلك مزية وحدها، فالتهميش يحيل إلى العنف كما يقول دارسو المجتمع، لكن التهميش ليس عنفاً مجانياً بالضرورة، فلبعض أشكال سلوك العنف مبرر وجودي فحين يفقد الإنسان رغبته في الوجود يقيم طقوس العنف ليحتج على الهامش الذي يسكنه. وليقول «للطبقات الراقية» أنا أراكم فهل ترونني؟

وبالطبع كما يحتاج كل سلوك إلى وسائل تعبيره التي ينتجها من تديّن أو عنف أو أزياء خاصة أو بناء قيم وانهيار أخرى، فالتهميش يحتاج متناً كتابياً يرتب شؤونه ويقيم مملكته في عهدة الكلمات، خصوصاً إذا عجز عن إقامتها في بلاد الله الواسعة.

فعل هذا الشنفرى وتأبّط شراً، ثم فعلته حكايات ألف ليلة وليلة، وأدب المقامات خصوصاً، وهو نمط كتابي يقوم على ترسيخ أيقونة «اللص الظريف» وهي بشكل ما انتقام هامشي يجترحه بطل هامشي، مع ما بين البطولة والتهميش من تعارض في الوظيفة والشكل. فبطل المقامة لا يختلف كثيراً عن «حرافيش نجيب محفوظ» الذين غاصوا في قاع المجتمع من دون أن تنتبه لهم السلطة التي داستهم.

وبعض أبطال قصص ألف ليلة وليلة ليسوا سوى نسخ من شخصيات يوسف إدريس في «أرخص ليالٍ» التي صوّر فيها بعمق حياة بسطاء الناس بكل تناقضاتها وصخبها وبؤسها، ما دعا إحدى سيدات المجتمع والإقطاع قبل الثورة لتقول «هي الناس اللي بيتكلم عليها دي في مصر؟»!

وفي بعض المخطوطات القديمة سنجد النص الأساسي وقد ذيّل بحاشية تشرحه، وهذه الحاشية في حقيقة الأمر هامش يستمد وجوده من المتن فقط، كما تستمد حاشية السلطان مكانتها عبر حضوره فقط. لكن هذا التفسير أحادي الجانب، فمن دون التذييل على النص سيبقى النص حبيس ذاته، وقد تبقى دلالاته حبيسة حتى يطلقها هامش ما، ومن دون حاشيته لا يستطيع السلطان أن يحكم. وهذا ينطبق على الطبقات المهمّشة في المجتمع فلو لم تكن لما كانت هناك حركة اقتصاد أو حركة مجتمع ترفع الآخرين درجات في سلّم الطبقات.

وفي الشعر العربي، نستطيع تفسير الشعر العذري مثلاً باعتباره صرخة من قلب الهامش، فهم كما يقول بعض الدارسين «جماعة هامشية بصورة متميزةٍ ولاسيما على الصعيد الاقتصادي».

وفي الشعر الحديث، يغيب المركز والبؤرة وخصوصاً في تجربة قصيدة النثر لصالح حضور الهامش والمنفي والمغضوب عليهم والشعراء الضالين، فمواضيع النص الحديث يومية آنية لا تزعم مركزية التفسير ولا تمتلك سطوة الغيب، وتتجلى الهامشية في السخرية وفي طرق توزيع النص بصرياً في بعض الأحيان بحيث يغيب التناظر البصري لصالح التشتت ولصالح تعاقب الخطوط الكبيرة والصغيرة أحياناً. بل نجد بعض التجارب الشعرية تضع هوامش مرقمة تشرح بها النص الأول.

تُرى، ألا يمكن اعتبار الكتابة الصوفية بشكل ما لجوءاً إلى الهامش، والتصاقاً به هرباً من طغيان المتن بكل عنفوانه. أليست تلك «بلاغة المقموعين»؟

 

ytah76@hotmail.com  

تويتر