ما لا تحققه الحروب تنجزه الأزمات الاقتصادية

جورج فهيم

يخطئ من يظن أن أبعاد الأزمة الاقتصادية العالمية تقف عند مجرد خسارة حفنة من الدولارات أو الأصول الفاسدة، وحتى عندما تنتهي الأزمة فإن شكل العالم بعدها سيكون مختلفاً كل الاختلاف عما كان قبلها؛ وبعبارة أدق، فإن الكثير من التغييرات الاستراتيجية والجيوبوليتيكية التي فشلت الحروب والمواجهات العسكرية والصراعات السياسية في تحقيقها ستأتي الآن على جناح الأزمة الاقتصادية، ولعل هذه هي الرسالة التي خرج بها المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد أخيراً في دافوس.

وفي مقدمة التغييرات الاستراتيجية التي ستفرضها الأزمة أن الولايات المتحدة ستعجز عن الوفاء بالتزاماتها الدفاعية الدولية المتمثلة في شبكة القواعد العسكرية التي تمتد عبر قارات العالم، وإذا كانت الولايات المتحدة أنفقت ما قيمته 14٪ من إجمالي الناتج المحلي خلال الحرب الكورية، و10٪ في حرب فيتنام، فإنها لن تكون قادرة على إنفاق سوى 3٪ فقط في الوقت الحالي وفقاً لأفضل التقديرات، وهذا يعني أن قوى إقليمية أخرى ستبرز على السطح لملء الفراغ وضبط الإيقاع.

ويرتبط بهذه النقطة أن الولايات المتحدة ستضطر أيضاً إلى تقليص حجم برنامج مساعداتها الخارجية إلى أقل من 0.2٪ فقط، وهذا يعني أن الكثير من الدول التي كانت تصنف تقليدياً تحت المظلة الأميركية عليها الآن أن تبحث لها عن تحالفات جديدة تحقق مصالحها.

ومن المؤكد أيضاً أن الخروج من الأزمة سيفرض على الولايات المتحدة، التي تشكل أكثر من 20٪ من إجمالي الاقتصاد العالمي، تطبيق إجراءات صعبة وقاسية لخفض مستوى الديون، وإصلاح العجز في الميزان التجاري، وتحسين القدرة التنافسية لصادراتها، وهو ما يقتضي خفضاً كبيراً في قيمة العملة الأميركية، وهذا بدوره سيدفع العديد من الدول إلى نقل احتياطات العملات الأجنبية من الدولار إلى عملات أخرى بصورة تضع نهاية للدولار كعملة للتعاملات الدولية، كما أن الأسواق المالية الأميركية، التي كانت تشكل قبل الأزمة نسبة 40٪ من إجمالي أسواق المال العالمية، لن تقوم بعد الأزمة بأداء هذا الدور منفردة، وإنما سيحدث نوع من توزيع الأدوار مع مراكز المال الأخرى.

ومع التراجع في النفوذ العسكري سيأتي التغيير في ميزان التجارة الدولية الذي بدأ ينتقل تدريجياً بالفعل من الغرب إلى الشرق، والكثير من الدول في أوروبا وفي الولايات المتحدة نفسها لا تعي أن عولمة الأسواق المالية هي السبب المباشر في الأزمة، وأن الوقت ربما يكون مناسباً لإعادة النظر في قواعد الاقتصاد الحر وقوى السوق، والاتجاه بالتالي نحو حقبة جديدة من النمو الاقتصادي القائم على تدخل الدولة وتأميم البنوك وفرض قيود على تدفق رؤوس الأموال والسلع والعمالة. وليس هناك شك في أن التغييرات في النظام العالمي الجديد ستكون محفوفة بالمخاطر لحركة الاستثمار الدولية، ليس فقط بسبب اندفاع الحكومات لإصدار سيل من التشريعات الجديدة لسد الثغرات التي تسربت منها رياح الأزمة، وإنما أيضاً بسبب الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي تغذي روح العداء للاستثمارات الأجنبية والناجمة عن فقدان 51 مليون شخص في مختلف أنحاء العالم لوظائفهم، وفقاً لتقديرات منظمة العمل الدولية.

georgefahim_63@hotmail.com

تويتر