حبيبتي الدولة
لا يمكن الحديث عن شكل واحد للدولة في الوطن العربي، فبسبب الاختلافات الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية تتخذ الدولة أشكالاً مختلفة، وتبرز النخب الحاكمة في كل دولة بطريقة تتوافق مع مصالحها ومصالح الدولة، كما تراها. يرجع جزء مهم من الاختلافات إلى طريقة بناء الدولة في بداياتها، وإلى مصدر الشرعية الذي استمدت منه مبررات وجودها. فبينما كانت بعض الدول تستمد شرعيتها من الدين وتقيم نظمها على أساسه، فإن دولاً أخرى ذهبت إلى صيغة مخففة من العلمنة لتصير مصدر شرعيتها، فيما قررت دول أخرى أن تصبح نموذجاً واقعياً للتعايش بين النمط القبلي والطموح التنموي الكبير بحيث تصبح التنمية الدائمة قوة دفعها الجبارة.
في كل حال، عانت مجمل الدول مشكلات تتعلق بمدى تطابقها مع مجتمعها المدني، ومدى قدرتها على ترتيب عقد اجتماعي مرن وقادر على منح الدولة سلطتها على الأرض والحفاظ على حريات الأفراد في الوقت نفسه. وهي معضلة تتكرر في دول كثيرة خارج منظومتنا الثقافية كالدول الاشتراكية السابقة وهي دول قامت لتحكم باسم العدالة فتحولت لجهاز ضخم ينظم العنف ضد الناس.
وهذا في النهاية جزءاً من وظيفة الدولة فهي تحتكر العنف وتبرره وتمارسه بحكم كونها «السلطة المشروعة»، ولكن ميلان الدولة لمصلحة جانب أكثر من جانب أو ميلانها لصالح نفسها سيجعلها في تعارض من حركة المجتمع.
يحتاج الخروج من لعنة العنف إلى جعل المجتمع مركزاً للمحاسبة والتشريع، أو فلنقل إن جزءاً من المجتمع سيتولى هذه الوظيفة. وبذلك تتم أنسنة الدولة ويتم الاعتراف بأن الدولة ليست دائماً على صواب. ولكن هذه الخطوة لا يمكن القيام بها دون موافقة الدولة عليها ودون بلورة حضور مجتمعي يعرف كيف يكون مؤثراً في قرارات الدولة.
لكننا أمام حضور قوي للمجتمع مقابل الدولة سنقع في مطب محتمل وخطر، وخصوصا عندما يتمكن المجتمع من ممارسة وظائف الدولة، ولكن بشكل فوضوي وعبثي وخارج عن القانون. ولربما روج بعض المثقفين لدولة ضعيفة كنوع من تحدي «النظام الأبوي»، أو قتل الأب كما يشيع في الأدبيات الحداثية. وكسر رتابة النظام بهذا الشكل لا تختلف كثيراً عن فعل طائش لمراهق يحطم واجهة مكان عام في بادرة احتجاج ضد الدولة. فممارسة هذا المراهق هي تجسد فكرة الحداثي على الأرض، وكلاهما يظن انه يحسن صنعاً بممارسة «الخروج». والنتيجة هي أننا نضعف الدولة، حيث نريد أن نقويها، ونشيع الفوضى، حيث نحتاج إلى الاستقرار ،ونمارس «القتل الأهلي»، حيث نزعم أننا سنلد وطناً أبهى وأحلى.
ولذلك ربما كان الأجدى أن نعيد صياغة الدولة، لكن تحت سقف الديمقراطية، فحاجتنا إلى الدولة أكبر من غواية التمرد والفوضى، وأن نردد مع الشاعر اللبناني محمد العبدالله عنوان ديوانه «حبيبتي الدولة» وهو من جربها في سخطها ورضاها فردد قول الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم/ولا سراة إذا جهالهم سادوا.