قواعد اللعبة الجديدة

جورج فهيم

خسائر الفشل أو التأخر في التأقلم مع الحلول والقواعد التي ستفرضها الأزمة الاقتصادية العالمية، ربما تكون أكبر وأخطر بكثير من الخسائر المباشرة للأزمة ذاتها، وهو ما يفرض على لجان متابعة تداعيات الأزمة وضع استراتيجية مفصّلة، ليس فقط على مستوى الحكومات، وإنما أيضا على مستوى الشركات والأفراد لتقليل حجم الأضرار الاقتصادية وتأهيل مختلف القطاعات الاقتصادية للتأقلم مع قواعد اللعبة الجديدة.

ولعل أحد أبرز نتائج الأزمة الحالية، أنها أعادت رسم حدود العلاقة بين الأسواق والحكومات، وبعبارة أدق فإن موجة العولمة التي فرضت على دول العالم خلال العقدين الماضيين نموذج الرأسمالية الأنغلوساكسونية، القائمة على تحرير التجارة وحرية تدفق رؤوس الأموال وتحرير الصناعات المحلية، ستبدأ في الانحسار من جديد، وتفتح الباب أمام بروز دور الدولة، وهذا بدوره يصطدم مع حرية الاستثمارات الأجنبية التي تريد الدخول إلى قطاعات تعتبرها الحكومات حساسة، ويعتبرها القطاع الخاص فرصاً استثمارية مربحة.

ومن المؤكد أن صعود دور الدولة، وبصفة خاصة في القطاع المالي الذي كان مصدر الزلزال الاقتصادي، سيفرض سلسلة من التغييرات في قواعد عمل البنوك وطريقة أدائها لعملها، بدءاً من الحاجة إلى زيادة رأس المال واندماج الوحدات الصغيرة، مروراً بتعديل نسب الإقراض إلى الودائع، وانتهاء بقواعد المخاطرة، بل وحتى نسب الأرباح الموزعة ومقدار عوائد الأسهم وحزم الامتيازات التي يحصل عليها مديرو البنوك أنفسهم، وهذه التغييرات ستعيد رسم مشهد هيكل سوق التمويل العالمي.

وإذا كانت الأزمة الاقتصادية العالمية تعني صعود دور الدولة، فإنها تعني أيضا نهاية عصر القطبية الأحادية المالية، الذي كانت تتحكم فيه الولايات المتحدة، ومن ورائها حفنة من الدول الغربية، في تسيير أسواق المال العالمية، ومن الآن فصاعداً سيكون للاقتصادات الناشئة ــ وبصفة خاصة الصين، وعلى نحو أقل دول الخليج ــ دور أكبر في صناعة القرار المالي، خصوصاً إذا اقتضت الأزمة ضخ رؤوس أموال ضخمة من هذه الدول في كبريات الشركات العالمية.

ورغم أن عودة دور الدولة كأحد أكبر حملة أسهم البنوك يعيد بعض التوازن المفقود إلى الأسواق، إلا أن المبالغة في حجم هذا الدور بدافع ضبط حركة الأسواق والتعافي بسرعة من الأزمة، قد يحمل في طياته مخاطر «تسيس» عمل البنوك، سواء على مستوى العلاقات بين الدول أو حتى على مستوى الدولة الواحدة، وهي آفة تحد من حرية البنوك وقدرتها على التخصيص الكفؤ للموارد، ولعل هذا هو السبب وراء رفض الكثير من البنوك لخطط الإنقاذ الحكومية.

ومن المؤكد أيضاً أن صعود دور الدولة لن يقتصر على القطاع المالي فقط، لأن تداعيات الأزمة قفزت بسرعة البرق من القطاع العقاري إلى القطاع المالي، وتناثر حطامها لتصل إلى قوت وغذاء ملايين الفقراء الذين تظاهروا في 30 دولة عبر مختلف أنحاء العالم، والذين وجدوا أنفسهم فجأة من أصحاب منازل إلى مشردين في الشوارع، ومن أصحاب وظائف إلى عاطلين عن العمل، وهذا التوتر الاجتماعي هو آخر ما يرغب فيه السياسيون.
تويتر