5 دقائق

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

تهل علينا أشهر الحج كل عام، فيجد المسلم حناناً لبيت الله الحرام لم يكن معهوداً لديه من قبل، يجد نفسه تهفو إلى الديار المقدسة، وهو يدرك أن رحلة الحج مملوءة بالمتاعب بل بالمخاطر، فلا يعيرها اهتماماً، مع علمه أن الحج فُرض مرة واحدة في العمر، وقد يكون أداه، فلماذا يخاطر براحته؟ ويستسهل الصعاب التي تكون في مناسكه، مع أن الله لم يكلفه ذلك أكثر من مرة واحدة في العمر؟ ولو أن للنفس حظاً في راحة أو للقلب فسحة في لهو أو غير ذلك لقلنا إن نفسه وهواه حملاه على استسهال تلك المشاق، ولكن الأمر على خلاف ذلك تماما، فلماذا يكون ذلك الحنان ويشتد لديه التوقان؟ إن العقل قد لا يجد تفسيرا لذلك، لكنه لو قرأ الدعوة الإبراهيمية «رَبنَا إِني أَسْكَنْتُ مِنْ ذُريتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرمِ رَبنَا لِيُقِيمُوا الصلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ الناسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثمَرَاتِ لَعَلهُمْ يَشْكُرُونَ».

لعلم أن دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام لم ترد- وهكذا دعاء الأنبياء- بل إن الله تعالى حققها في عباده ممن آمن منهم بالله واليوم الآخر، وقد احترز سيدنا إبراهيم عليه السلام، فأتى بمِن التبعيضية «من الناس» ليحقق ما كتبه الله وقضاه من تطهير بيته، فلا يقربه مشرك، ولو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس، ولكن قال: «من الناس»، فهم المسلمون «كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما،كما قال في آية أخرى: «رَب اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ»، فهو الحنيفي الذي أتى بالإسلام ودعا بنيه إليه ووصاهم به، لا يداني الوثنية لا سيما في حرم الله، فلا يريد أن يعيش فيه من لا يكون على منهجه، إلا أن الله تعالى كان أرحم بعباده فلم يمنع من كفر به رزقه، فقال له:«وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتعُهُ قَلِيلًا ثُم أَضْطَرهُ إِلَى عَذَابِ النارِ وَبِئْسَ الْمَصِير». لذلك المسلم يحن حنين العيس إلى تلك الديار المقدسة، لا لشيء إلا لأنه يجد فيها أنسه بالله، وبها ينقطع لأخراه، ولا يعيش فيها إلا الأواه، بها يلوذ بجنابه، ويقف ببابه، ويخشع بجَنانه ولسانه، فيها تسكب العبرات، وتقال العثرات، فيها يبايع الله في بساط ملكوته، ويستشعر وقوفه بين يديه ضاحيا، يأمل أن يكون لذنوبه ماحيا، ولأبواب جنانه فاتحا، فيها يعلن التأسي بالأنبياء، ويعلن للشيطان الإباء، ويذبح هواه ويطيع ربه ومولاه، ولو كان في ذلك مخالفة لما يهواه، فيها يترسم خطى الأنبياء ويتتبع أثر الأصفياء، ويقف بين يدي حبيب رب العالمين معلنا له المبايعة، ومتعهدا له بالمتابعة، يخاطبه كفاحا، يقرئه السلام فيرد عليه المصطفى الكلام، ويسأله الشفاعة يوم القيام، يوم تجثو الخلائق للملك العلام، فلا يشفع لها إلا سيد الأنام، فيكون بسبب ذلك من الفائزين بالجنان، ومن المزحزحين عن النيران.تلك هي رحلة الشوق التي ترحل فيها الأرواح قبل الأشباح، وكثير من الذين لم يصحبهم التوفيق يقول بلسان حاله قبل مقاله:

يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا

إنا أقمـنا على عجـز وقـد رحـلوا ومـن أقام علـى عجـز كمن راحـا

فعسى لفحة الشوق تطفئها سلوة الأجر الذي أعد للعاجزين، الذين لا يجدون ما يحملهم إليها، لقلة اليسار وغلاء الأسعار، فعذَرهم الرحيم الغفار، لكنهم لم يعذروا أنفسهم من لوعة الحزن ومرارة البعد، وقد صح في الحديث «إن بالمدينة أقواما، ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم»، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة ؟! قال: «وهم بالمدينة، حبسهم العذر».

تويتر