رغيف غزة

علي العامري

أهل غزة جزء من الشعب الفلسطيني، وهم جزء من الأمة العربية، وهم أيضاً جزء من أهل قارة آسيا، وهم جزء من البشرية أيضاً. هذه الحقائق البديهية، يبدو أنها ليست بديهية وفق «منطق» الاحتلال ومسانديه ومعاونيه والصامتين على مشاهد المأساة التي تتواصل حلقاتها خنقاً لأطفال ونساء وشباب ومرضى وجرحى ذلك الجزء من العالم؛ والذي يُسمى «غزة». وهي كذلك غزة في ضميرنا كلنا، وفي ضمير العالم المصاب بالحول الإنساني والسياسي والثقافي.

نعم، ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي ليس تجويعاً فقط لأهل غزة، إنما هو حصار للأمل، على الرغم من ندرة هذا الأمل.

ما يرتكبه الاحتلال جريمة بحجم الكون، لا يقصد منها انتاج مجاعة عادية فقط، بل يهدف الى انتاج مجاعة إنسانية وثقافية وسياسية.

المشهد واضح تماماً، ولا لبس فيه. المجاعة التي يؤسسها الاحتلال في غزة، ذات صيغة قتل مباشر للبشر والحجر والكتاب والشمعة.

في الظروف القاسية، لا يتوقف الإنسان عن ابتكار طرق معيشته، وطرق للأمل والعمل والقراءة والكتابة والرسم، فمن الحجر استخرج الإنسان الأول سكيناً لمطبخه البري، ومن الحجر بنى غرفته البرية، بعدما خرج من الكهف، ومن الحجر استخرج ألواناً ليرسم واقعه وحلمه مقرونين معاً. ومن الحجر نحت صهيله الأول وامرأته الأولى وقصيدته البكر. ومن الحجر استخرج جرناً لغيمة. ومن الحجر استنبط مخزناً للقمح القديم. ومن الحجر استخرج كتابه الأول الذي لايزال يومض بحروف محفورة ومخفورة برعشة الحب. ومن الحجر استخرج شرارة النار الأولى ليؤنس روحه في عتمة عائمة على جسد ووقت وشجر وقشعريرة برد وأغنية.

نعم، يبتكر الإنسان طرقاً جديدة، في الملمّات. كما يفعل، الآن، أهل غزة الذين يفرض عليهم الاحتلال حصاراً خانقاً، يهدف الى تقطيع أوصال القطاع ولجم الضوء وتكميم اللوحة وحبس القصيدة وإغلاق المدارس والجامعات والمراكز الثقافية وجعل الرغيف «حلماً»، خصوصاً في ظل الأزمة التي تعصف بالعالم من كل الجهات. لكن أهل غزة يحولون الآن علف البهائم إلى خبز ساخن، ويحولون ظل الشجرة إلى مدرسة، ويبنون من صوتهم صورة تنزف دماً أمام العالم «المتجمد» إنسانياً.

ليس الحصار الإسرائيلي مجرد فكرة، إنما هو عقوبة قتل بالتقسيط لأكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني، بينهم أطفال وشيوخ ونساء وعمال وشعراء وخبازون ورسامون وعاطلون عن العمل لا الأمل.

يغيب القمح، لكن السنابل لا تموت بعد جفافها.

يغيب الوقود، لكن الزيت يكاد يضيء «ولو لم تمسسه نار».

يغيب الكتاب، لكن العتمة لن تطال الحروف.

تغيب المدرسة، لكن ظلال الشجر لا تضيق.

يغيب الحبر، لكن الشرفة لا يقتلها ليل.

يغيب ضمير العالم، لكن ضمير الحجر لا يتوقف عن النبض.

 

ali.alameri@emaratalyoum.com

تويتر