ليست خرساء

أحمد السلامي

جمع الشاعر المصري الكبير أحمد عبد المعطي حجازي مقالاته عن قصيدة النثر في كتاب صدر أخيراً عن مجلة «دبي الثقافية»، بعنوان «قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء»، وكانت مقالاته قد أثارت ضجة في مصر قبل أن يضمها هذا الإصدار الذي يؤكد تمسكه بموقفه تجاه شكل شعري لم يرق له، ولم يجد له في ذائقته ما يمكنه من التقاط جماليات شعر خالٍ من الوزن والقافية.

ومن المعروف أن هذا الجدل القديم رافق قصيدة النثر العربية منذ ولادتها في منتصف القرن الماضي، ومع مرور الوقت وبفعل تراكم المنجز الشعري تضاءلت مساحة الخلاف واكتسبت «القصيدة الخرساء» مشروعيتها، وأوجدت القارئ الذي عثر بداخله على حواس أخرى تصغي بعمق إلى قصيدة تنهض شعريتها خارج تفاعيل الخليل وبحوره.

لا أحد ينكر ريادة عبد المعطي حجازي، لكنه رغم احتفاظه بمكانة لائقة في تاريخ الشعر العربي المعاصر باعتباره من أقطاب التجديد في مرحلة شعرية بارزة، إلا ان موقفه المتحفظ تجاه التحولات الطبيعية في المشهد الشعري العربي يجعل من ريادته صفة تاريخية محكومة بزمنها ومعزولة عن الراهن، فكتابه الجديد يبدو قديماً، فهو لا يطرح أسئلة جديدة ولا يتحاور مع قصيدة النثر من داخلها، بل يعيد نبش المعركة التقليدية حول ضرورة التلازم الأبدي بين الشعر والوزن.

وعلى هذا النحو يتأرجح الرواد في التعاطي مع الخطاب الشعري الراهن، ولا أتطاول على المقامات إذا ما قلت إن حديث الريادة لم يعد مدخلاً مناسباً لحوار جديد حول قصيدة النثر، فبعضهم توقف عند حدود التأسيس لخطاب المرحلة التي عاشها، ولذلك يبدو كتاب «القصيدة الخرساء»، استدراكاً جاء متأخراً ليتشبث بمسلَّمات تجاوزها الواقع الشعري اليوم بمراحل طويلة تمثل المسافة الزمنية والمعرفية التي تفصل بين الستينات والتسعينات من القرن الماضي.

ومع ذلك لا أحد يقول إن قصيدة النثر أصبحت شكلاً مقدساً لا يقبل النقد، لكنها في المقابل لم تعد بحاجة إلى من يجدد الاعتراف بمشروعيتها أو يخرجها من جنة الشعر، بل إنها بحاجة لقراءة تعيد غربلة المنجز النصي وتراجع المقولات النظرية الجاهزة، أقصد تلك المقولات التي تختزل الجوانب التقنية في الانزياح والمفارقة، وتنهمك في رصد المشاغل الموضوعية للنص بالحديث عن التفاصيل اليومية الصغيرة والهوامش المغيبة، لدرجة أن التركيز على مضمون النص مقابل إهمال خصائصه الأسلوبية يكاد يختزل وظيفة النقد في استماع الناقد لصوته الداخلي، فتجده يقرأ النص النثري ليبحث عن تجليات محفوظاته من الجمل والتوصيفات النقدية المستهلكة.كما أن معاودة الجدل بين فترة وأخرى حول هذا الموضوع تدل على ضعف المسار النقدي الذي واكب قصيدة النثر، إن لم نقل إنه فشل في أداء مهمته، ويبدو أن قصيدة النثر العربية بحاجة كذلك إلى إعادة النظر في الاستلهام الحرفي لملامح مثيلتها الغربية، فحين نقول إن القصيدة في الغرب لم تعد مشغولة بالقضايا الكبرى وليست معنية بالمجاز اللغوي، فذلك لا يعني بالضرورة أن تنتهج قصيدتنا هذا الأسلوب، إلا إذا كنا نريدها أن تصبح معزولة عن لغتها وبيئتها، والأرجح أنها تعاني العزلة بالفعل، لكنها ليست خرساء.  


slamy77@gmail.com

تويتر