عن عجوز تنتخب.. وتموت
دورا فيتزجرالد، عجوز أميركية بلغت من العمر 93 عاماً، وقد وقّعت على لائحة اقتراع غيابي من على سريرها في ولاية شارلستون قبل أيام، وانتخبت المرشح الديمقراطي باراك أوباما، وتوفيت بعد ساعة من إرسال تصويتها بالبريد.
من حُسن حظها أن القانون الأميركي يسمح بالتصويت قبل الموعد الرسمي للاقتراع الذي يحلّ الثلاثاء المقبل، وأن بإمكانها الانتخاب عبر البريد. ذلك أنها، وحسبما ذكرت صحيفة «ذي صن كرونيكل» الأميركية «كانت تعتبر الانتخابات مسألة حياة أو موت».
قرأت عن هذه العجوز في صحف هذا الأسبوع، وتذكرت بمرارة تجارب عربية في الانتخابات، بعضها اقترعت فيها ناخباً، وأخرى ساهمت في تغطيتها صحافياً. وقلت لنفسي، وأنا من أكثر الناس كرهاً لجورج بوش وعصابته النازية، أن دورا فيتزجرالد محظوظة أولاً وأخيراً لأنها أميركية، عاشت قبل أربعين عاماً في بلاد قتلت مارتن لوثر كينغ لأنه أسود، وها هي تنتخب أوباما، بفضل هذه البلاد نفسها.
البلاد التي استوعبت تاريخها، وتعلمت عميقاً من «حلم» كينغ، وبأثمان باهظة، ما يجعل مواطناً من أصول كينية على مقربة من أن يكون رئيساً لدولة تقود العالم، وتقرّر مصيره!
العجوز الأميركية اقترعت بالبريد، ولم يخالطها شكّ بأن موظفاً من الحزب الجمهوري، أو من الـ «سي آي أيه» سيفتح المغلّف، ويغيّر اقتراعها لمصلحة جون ماكين. فهي عاشت في مكان ينجح فيه الرئيس بفارق نسبي قليل عن منافسه، ولا يمكنه أبداً أن يحصل على 99.99% وهي ماتت في بلاد لا تتغير فيها صناديق الاقتراع أثناء النقل، ولا تنقطع الكهرباء أثناء فرز الأصوات، ولا يُصرح فيها الرئيس الأميركي بأنه أجرى «انتخابات حرة ونزيهة»!
لا أتوخى المقارنة، لأنها محزنة. وتكشف عمق الأسى في الزمن العربي، ولكن في الوقت نفسه أتخيّل حجم التردد العربي إزاء التغيير، والخوف منه، ومحاربته، وأتساءل: هل ستصل الأجيال المقبلة إلى نتيجة مباشرة وسريعة بأن الانتخابات ثقافة غير عربية، أو ربما أسلوب لحياة متحضرة، لا يستطيع العرب التكيّف والانسجام مع شروطها وتبعاتها؟!
نحن نعيش حضارياً في مرحلة ما قبل الاتصالات الرقمية. ربما أقترح الحمام الزاجل عنواناً لهذه المرحلة، واجتماعياً في حقبة ما قبل الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني. وهذه أقترح لها «وما أنا إلاّ من غزيّة إن غوتْ غويت» شعاراً جامعاً مانعاً، وثقافياً في مرحلة زواج الوناسة والمسيار والمسفار، وهذه ليس لها عنوان أكثر دقة من الآية القرآنية «وإذا الموؤدة سئلت، بأي ذنب قتلت»!
الانتخابات الرديئة والركيكة التي جرت في بعض بلاد العرب كانت معزولة عن سياق حضاري وثقافي، وستظل فعلاً شكلياً عديم الجدوى، مادامت تحدث بقرار، وتتحدد نتائجها ومفاعيلها الاجتماعية بقرار أيضاً، لتكون حاصل مجموعة من مِنح أبوية، لم يُدفع في سبيلها أي ثمن، ولذلك فهي سلعة رخيصة، لم يعد يشتريها أحد إلاّ على سبيل الوهم، أو التسلية به.
baselraf@gmail.com