٥ دقائق

فليَقُل خيراً

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

منطق اللسان شديد الخطر على الإنسان، فالمرء أسير لسانه، ولذلك قال بعض الحكماء: إن الله تعالى إنما خلق لك أذنين ولساناً واحداً ليكون ما تسمعه ضعف ما تتكلم به.

ومما يبين شدة خطر اللسان أنه السبب الأول لإكباب الناس في النار على مناخرهم، كما صح في الحديث «هل يَكُبُّ الناسَ على مناخرهم في جهنم إلا حصائدُ ألسنتهم؟»، فقد بين الحديث الشريف خطر اللسان على الإنسان في دينه ودنياه وآخرته، وهو ما يشير إليه قول الحق جل شأنه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أي ملكان يكتبان ما تفوَّه به اللسان؛ رقيب يكتب الحسنات، وعتيد يكتب السيئات، وكفى بهذا التنبيه زاجراً للمرء حتى يحفظ لسانه، فإن العاقل لو أراد أن يتعدى حدود الله تعالى، وعلم أن هناك من يراقبه ليؤاخذه على فعله؛ فإنه سيكف قطعاً خوفاً من المؤاخذة، فكيف لا يكفُّ عن ذلك والله يخبره بأن عليه عتيداً، وأي عتيد؟! إنه عتيد لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وكما قال صاحب جوهرة التوحيد: «حتى الأنينَ في المرض كما نُقل»، ولهذا فإن نبينا وحبينا المصطفى، صلى الله عليه وسلم، أرشدنا لما ينفعنا في الكلام لا ينبغي تجاوزه فقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمُت».

وهو من جوامع كلِمه عليه الصلاة والسلام التي أعطيها، ومحل الشاهد منه الآن هو الصمت عما عدى الخير، فإنه صلى الله عليه وسلم حث على قول الخير، وحذر من قول غيره، حتى يعصم المرء نفسه من عاقبة قوله، فإنه إن لم يشغل لسانه بقول الخير الذي ينفعه في دينه ودنياه، أو ينفع إخوانه من بني الإنسان كذلك، كذكر الله تعالى، فلا أقل من أن يمسك عن القول الباطل، فإن الإمساك عن ذلك هو خير له من أن يؤاخذ بقوله، كما ورد: «رحم الله عبداً قال فغنم، أو سكت فسلم».

وما أحوجنا في هذا الزمان لأن نجعل هذا الحديث الشريف منهج حياتنا في كلام اللسان أو لسان القلم، فإن القلم أحد اللسانين، حيث لم يَعد ذلكم القلمُ الذي يصب مداده في الورق، فيكون المكتوب حبيس الأدراج، فإن الخطر الأكبر اليوم هو في القلم الإلكتروني في عالم الفضاء المفتوح الذي ينتشر في الآفاق بغمضة عين، والذي قد يكون سبباً لانتشار الفتن والبغضاء وغير ذلك، حتى وإن كان قول صدق، فإنه ليس كل ما يعلم يقال، فضلاً عما لو كان كذباً محضاً فيكون وباله أكبر.

إنَّ قول الخير هو منهج المسلم المراقب ربَّه الذي يعلم أن نعمة اللسان تستوجب شكر الرحيم الرحمن، الذي منَّ عليه به ليعبِّر به عما في ضميره، ويكسب الخير العظيم به إن هو ذكر الله به، كسبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده وهما «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن»، كما قال عليه الصلاة والسلام، فكيف بكلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله التي هي مفتاح الجنة؟! وكيف بكلمةٍ من القرآن الكريم التي يكون الحرف منها بعشر حسنات؟! وكيف بصلاة واحدة على رسول الله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فيصلي عليه الله بها عشرا؟! وكيف بكلمة «لا حول ولا قوة إلا بالله» التي هي كنز من كنوز الجنة؟! فبمثل هذا الكلام يكون شكر الله تعالى على نعمة جارحة اللسان، لكونه شغلها بما خُلقت لأجله، فإن الله تعالى لم يخلق النعم في العبد أو للعبد ليُعصَى بها، بل ليُشكَرَ عليها، فلو لم يشكره عليها لكان كافراً بالنعمة، وكان عرضة لعذاب أليم كما قال سبحانه {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} والمعنى: أعلمَ ربُّنا سبحانه بأن يُشكرَ على نعمه، لا أن يُجحَد، فإن حصل الشكر أعلمَ ربُّنا بزيادة النعم، وإن جُحد أعلمَ سبحانه بعذابه عبده لكونه لم يستخدم النعمة فيما خُلقت له، ومن زيادة نعمه سبحانه على عبده إن هو شكره على نعمة اللسان، ونطق الكلام أن يزيده توفيقاً ويعظم له أجراً، ومن عذابه له ما تقدم الوعيد به لمن لم يقل خيراً.

نسأل الله تعالى أن يحفظ ألسنتنا عن الكذب وأعيننا عن الخيانة.

• أعلمَ ربُّنا سبحانه بأن يُشكرَ على نعمه، لا أن يُجحَد، فإن حصل الشكر أعلمَ ربُّنا بزيادة النعم، وإن جُحد أعلمَ سبحانه بعذابه عبده.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

 

تويتر