مؤثرون اجتماعيون يروِّجون سلوكيات تفتقد مبدأ «الخطأ والصواب»

75 % من واقع الطفل «افتراضي».. ومختصون يحذِّرون من «التقليد الإلكتروني»

صورة

أكد مختصون أسريون ونفسيون وقانونيون أن العالم الافتراضي، يشكل 75% من الواقع الذي يعيشه الطفل اليوم، لافتين إلى أن قضاءه ساعات طويلة في متابعة مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي، ينتج عنه اكتسابه صفات وسلوكيات تفتقد مبدأ «الخطأ والصواب»، إضافة إلى انفصاله عن الواقع، وتشبعه بعادات استهلاكية وثقافية لا تتناسب مع عادات وتقاليد المجتمع، لافتين إلى رصد تأثيرات سلوكية ونفسية سلبية عدة لدى الأطفال، ناجمة عن ظاهرة «التقليد الإلكتروني»، منها تنامي سلوكهم الاستهلاكي، واكتسابهم ألفاظاً تحوي شتائم وعبارات تقلل من شأن زملائهم، فضلاً عن تقمصهم شخصيات تتسم بالعنف في مظهرهم وطريقة كلامهم مع الآخرين. وقالوا إن الأسرة تلعب دوراً مهماً في تعزيز الوعي والتربية السليمة لدى الأطفال، وتحصينهم ضد المؤثرات الناجمة عن انغماسهم في العالم الافتراضي.

ووقعت، خلال السنوات الماضية، حوادث عدة، راح ضحيتها أطفال على خلفية تقليدهم أشخاصاً ظهروا في مقاطع فيديو، أو محاكاتهم ألعاباً إلكترونية.

منها واقعة شهدتها إحدى مناطق الدولة منذ سنوات، إذ أقدم طفل مواطن، يبلغ 12 عاماً، على الانتحار في غرفته، بعدما لف رقبته بحزام وتعلّق في ستارة الغرفة، ففارق الحياة على الفور. وأرجعت الأسرة سبب انتحار الطفل إلى محاولته محاكاة مشهد انتحار لأحد أبطال مسلسل تركي، كان يعرض على إحدى قنوات التلفزة.


وتفصيلاً، قال آباء ومعلمون، لـ«الإمارات اليوم»، إنهم واجهوا إشكاليات تربوية وسلوكية مع أطفال، بسبب تقليدهم مشاهير التواصل الاجتماعي على أرض الواقع، منها تداول عبارات وكلمات بذيئة، ومحاولة تنفيذ حركات وأفعال خطرة، وعمل «مقالب» للسخرية من الآخرين، وعصيان الوالدين وعدم احترام كبار السن، واستخدام مصطلحات من لهجات أخرى، والتأثر بثقافات غريبة عن مجتمعنا.

وقالت المعلمات: نورا سعد، ولارا فريد، وأمل فتحي، وداليا علي، إن «معظم الأطفال يحاولون تقليد الشخصيات المحببة لديهم، على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن المشكلة تكمن في عدم متابعة الأهل للمحتوى الإلكتروني الذي يشاهده أطفالهم»، مشيرات إلى أن «كثيراً من الطلاب لديهم مثل أعلى من شخصيات ومشاهير مواقع التواصل الاجتماعي، ويظهر تأثيرها السلبي في صورة تقمص هذه الشخصيات وتقليد حركتها وطريقة كلامها، والبعض يتخذ من بعض الشخصيات التي تروج العنف مثلاً أعلى، ويظهر ذلك من افتعال البعض الأزمات مع زملائهم في الصف، واللجوء السريع للعنف أو الصراخ، ما يمهد لخلق شخصية عدائية لا تقبل الحلول الوسطى».

وتابعن أن «الأطفال يقضون ساعات طويلة على مواقع التواصل الاجتماعي. وعندما يتخلون عن أجهزتهم، يواصلون التحدث عن شخصياتهم الأثيرة، كأنهم واقعون تحت تأثير سحري»، لافتات إلى أن «نسبة كبيرة من الأطفال أصبحت ترتدي نظارات طبية، نتيجة تأثر نظرها بكثرة الجلوس أمام شاشات التلفزيون والهواتف».

وأضفن أن مشاهير التواصل الاجتماعي يثيرون شغف الأطفال بسلوكيات استهلاكية متعددة، ما يدفعهم إلى تقليدهم في كل ما يفعلونه، سواء في طريقة الحديث، أو تناول الطعام والحركات المبالغ فيها. كما أنهم يطلقون أسماءهم على بعضهم بعضاً، ففي كل صف يوجد «اسبيدر مان»، و«كونور»، و«أمايا وجريج»، و«صوفيا»، و«إلسا»، و«أنا»، و«دورا»، وغيرها من الشخصيات المنتشرة على الحقائب والأدوات المدرسية.

ويقول الاستشاري النفسي الدكتور أحمد محمد الألمعي، إن «كثيراً من الأطفال يخلطون بين الواقع والخيال، ويقلدون الأعمال التي يشاهدونها في تصرفاتهم وسلوكياتهم اليومية على سبيل التجربة والاكتشاف الشخصي، فيتعلم الطفل أساليب القتال والمبارزة والحركات الخطيرة، وأيضاً مـن خلال المسلسلات التاريخية، وأفلام المغامرات والشخصيات البطولية في الألعاب الإلكترونية، ومقاطع الفيديو على الإنترنت».

ولفت الألمعي إلى أن «الطفل يقع تحت تأثير مواقع التواصل، لأنه يقضي معها ساعات طويلة، قد تتجاوز ثلثي ساعات النهار. ويكمن الخطر في أنه يميل لمحاكاة ما يتلقاه دون أن يفكر في عواقبه. والمثال على ذلك ما نشاهده من محاكاة في طريقة تعامله مع الآخرين من حوله. ونحن نرى في كثير من الأعمال الفنية، خصوصاً الغربية، تصورات خاطئة، تجعل الطفل يعيش تضارباً بين ما يراه في الواقع، وبين ما يشاهده فيها. وقد ينجم عن ذلك نوع من الاضطراب الثقافي، والاختلال في المعايير بين الصواب والخطأ، أو بين ما يجب اتباعه وما هو حاصل على أرض الواقع».

ويشرح أن «الطفل يراقب الأشخاص، الذين يعتبرهم مثلاً أعلى له، كأبطاله المفضلين، أو مشاهير (فيس بوك) و(إنستغرام)، و(سناب شات)، وغيرها، فيشاهد كيفية مواجهتهم المشكلات اليومية، وكيف يتصرفون مع خصومهم، ويحفظ هذه المشاهد في الذاكرة، على أنها الطريقة المثلى للتعامل مع المشكلات الشخصية، وعند تعرضه لمواقف من النوع نفسه، تسترجع ذاكرته هذه المشاهد، ويحاكي أفعال أبطاله الوهميين، متخذاً من أسلوبهم وسيلة لحل مشكلاته».

ونبه الألمعي إلى أنه «في الآونة الأخيرة أصبحت الأفلام القتالية، التي تعتمد على وجود أبطال خارقين وحروب بين الكواكب وما شابه، هي مطمح المنتجين العالميين، لما تدره عليهم من أرباح. وكانت هذه الأفلام موجهة لفئة الراشدين في بداياتها، لكنها أخذت الآن تستقطب فئات عمرية أصغر لتجمع نسباً أعلى من المشاهدة، ولا تخفى علينا الحوادث المتعددة عن الأطفال الذين لقوا حتفهم، جراء محاكاتهم ما يشاهدونه في أفلام (الأبطال الخارقين)، التي ترسخ فكرة أن البطل في مجتمع ما هو عادة يملك قوى خارقة للطبيعة، ومن خلالها فقط يمكنه نشر الخير، ودونها يصبح إنساناً ضعيفاً لا قيمة له، وهو مفهوم لاشك في أنه على قدر هائل من الخطأ، فالخير الذي يجب أن ينشأ عليه الأطفال يجب أن يتحقق دون أي قوى خارقة، وإلا شعر البعض بالعجز وانحسار قيمتهم في المجتمع».

كما نبه الألمعي إلى خطر المحتوى العنيف، لفظياً وجسدياً، الذي يبث بكثافة على الإنترنت، مضيفاً أن «بعض المسلسلات الشهيرة المأخوذة عن الغرب تحوي العديد من المشاهد الجنسية غير اللائقة، وتعرض على قنوات الأطفال العربية الموثوقة، فيطمئن الأهل إلى أن أطفالهم يتابعون قناة أطفال آمنة، دون التأكد من محتوى ما يعرض لهم، ما يجعل الطفل ضحية أفكار تنافي نشأته الدينية والثقافية».

وتابع أن تعرض الطفل المستمر لمشاهد العنف، يزيد خطر نشوء السلوك العدواني لديه، وتناميه. وقد ينجم عن ذلك نوع من التعود وانعدام الحساسية تجاه الآخرين، مشيراً إلى أن «تلك حقيقة لا تحتاج إلى دراسات، للبرهنة على صحتها أو توثيقها».

وأكد الألمعي أهمية دور الأسرة والإعلام والتربية في تثقيف الأطفال، عند مشاهدتهم مثل هذه البرامج، ومواجهة آثارها في سلوك الأطفال، مستدركاً بالقول إن تطبيق رقابة أسرية فعالة أمر ممكن عملياً، ناصحاً بعدم السماح للأطفال دون سن الثالثة عشرة بامتلاك هواتف ذكية، حسب توصيات الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال.

وأضاف: «قد يبدو تجنب هذه الأمور سهلاً، من خلال التحكم بمستوى الخصوصية المتاح ضمن إعدادات التطبيقات، لكن تظل خطورة التعرض للتنمر الإلكتروني قائمة. وطبقاً لدراسة نشرتها جامعة يال، بالولايات المتحدة الأميركية، فإن ضحايا التنمر من الأطفال يحاولون الانتحار بمعدل 2 إلى 9 مرات، أكثر من أقرانهم».

وأكد المستشار الأسري، عيسى المسكري، أن «العالم الإلكتروني يشكل 75% من حجم التأثير في الطفل بالوقت الراهن، مقابل تراجع تأثير العالم الواقعي والخيال الفطري لدى الأطفال»، مشيراً إلى أن «الأسرة أو المدرسة لن تستطيع مواجهة هذه المشكلة بمفردها»، مطالباً بإنشاء مؤسسة وطنية تستهدف توجيه الأطفال، وتعزز لديهم الهوية الوطنية، وتزيد الوعي لديهم بالاستخدام الإيجابي للإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي.

وقال المسكري: «ينبغي العمل على خلق بدائل للطفل، بعيداً عن العالم الإلكتروني، وتشجيعه على أن يعيش حياته الطبيعية، ويقضي وقته في ممارسة الرياضة والهوايات، وتصحيح المفاهيم والسلوكيات الخاطئة، التي يكتسبها من مشاهدة مقاطع الفيديو على الإنترنت، وتعزيز وعيه بأهمية القيم والمبادئ الدينية، التي يقوم عليها المجتمع العربي».

بدوره، قال المستشار القانوني، حسن الريامي، إن «قضية تأثر الأطفال بشخصيات ومشاهير التواصل الاجتماعي، وإدمانهم البرامج والألعاب الإلكترونية، التي تغير مفاهيمهم واتجاهاتهم، نتيجة طبيعية لإهمال الوالدين لهم، وغياب الرقابة الأسرية عن متابعة ما يشاهدونه، فالأسرة تلعب دوراً كبيراً في هذا السياق، تجعلنا نضعها في المقام الأول، لأنها ببساطة فرطت في وظيفة التنشئة الاجتماعية».

وتابع «هناك مسؤولية قانونية تقع على الأهالي المقصرين، في حال ارتكب الطفل سلوكاً مخالفاً للقانون، أو عرض نفسه لأي أذى، متأثراً بما يشاهده على مواقع التواصل الاجتماعي، أو خلال ممارسته الألعاب على الإنترنت، أو تقليده الحركات التي تؤديها الشخصيات المشهورة، فيما يعالج قانون الطفل (قانون وديمة) مسألة معاملة الأطفال كمتهمين جنائيين أو مرضى نفسيين، في حال إيذائهم الغير، حيث ينص القانون على أنه (يحظر على القائمين على رعاية الطفل تعريضه لأي نوع من أنواع الإهمال أو النبذ أو التشرد، ما قد يعرضه للأذى الجسدي والنفسي والأخلاقي، أو تركه دون رقابة أو متابعة».


الطاقة والشغف

نبه مختصون إلى خطر اختفاء برامج ومسلسلات الأطفال، التي تنمي مداركهم ومواهبهم من القنوات العربية، وحلول مسلسلات ومشاهير التواصل الاجتماعي، التي تحمل ثقافات مختلفة، محلها، لافتين إلى أنها تقوم على فكرة البطل الخارق، أو البطلة العاشقة، وتزرع في أدمغة الأطفال أفكاراً، لا تناسب أعمارهم ولا عادات وتقاليد مجتمعاتنا.

وأرجعوا ذلك إلى غياب سلطة الأهل، وضعف المحتوى الإلكتروني العربي الموجه للأطفال، واتجاه معظم القنوات الخاصة بالأطفال إلى الدبلجة، أو الاكتفاء بعرض المسلسلات بلغتها الأجنبية.

وأكد الدكتور أحمد الألمعي ظهور نمط جديد من الألعاب الإلكترونية، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، منها ما يكون فيه التواصل مباشراً مع غرباء من مختلف دول العالم، ذوي خلفيات ثقافية واجتماعية متنوعة وغير موثوقة، ومنها ما يسيره أشخاص مجهولو الهوية دون أي تواصل مع اللاعب.

وأضاف أن هذه الألعاب تستقطب العديد من الأطفال، خصوصاً الذكور، حيث تجتمع الطاقة المتأججة والفضول والشغف، لتجربة ما هو مختلف.

التنمّر الإلكتروني

رصد معلمون سلوكيات عنيفة، مارسها أطفال متأثرين بشخصيات شهيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، مشيرين إلى أن إقبال الأطفال على مشاهدتها أصبح أمراً خطيراً، إذ ينتج عنه اكتسابهم سلوكيات مثل الاندفاع والعدوانية والتنمر، والتشبع بعادات وثقافات مختلفة، إضافة إلى الانفصال عن الواقع.

وأكدوا أن الأطفال الذين يداومون على هذه المشاهد، ويتخذون من شخصياتها قدوة لهم، يحاولون تقليدهم، ويتسمون بالعدوانية والانعزالية حسب الشخصية التي يتم تقمصها، لأنهم لا يستطيعون التمييز بين الحقيقة والخيال.

وأفاد ذوو طلبة، في رياض الأطفال والصفوف الأولى، بأن متوسط الوقت، الذي يقضيه الطفل أمام وسائل التواصل الاجتماعي، يراوح بين أربع وخمس ساعات.

وحذر مختصون من تنامي ظاهرة التنمر الإلكتروني لدى الأطفال، على خلفية تقليدهم أبطال أفلام الكرتون والألعاب الإلكترونية. وأكدوا أن تكرار تعرض الطفل لمشاهد العنف، يزيد خطر نشوء السلوك العدواني لديه، حيث يمكن ملاحظة ذلك من خلال تقارير حوادث التنمر المدرسي المتزايدة.

تويتر